منذ أن دخل البيت الأبيض فى يناير الماضى؛ لم يتوقف الرئيس الأمريكى دونالد ترامب عن ترديد عبارة «فرض السلام من خلال القوة» خصوصا عندما يتعلق الأمر بمنطقة الشرق الأوسط.
ثم تبعه فى ترديد نفس العبارة رئيس الوزراء الإسرائيلى مصحوبة بنجاحاته الباهرة فى تغيير الشرق الأوسط. إن فكرة فرض السلام من خلال القوة قد تكون غريبة او جديدة، ولكنها فى الحقيقة هى سياسة قديمة ابتكرتها الإمبراطورية الرومانية، وطبقتها فعليا فى حوض البحر الأبيض المتوسط لقرون فيما عرف بالسلام الرومانى Pax Romana باللغة اللاتينية، وهى فترة استمرت لأكثر من 200 عام من عهد الامبراطور أغسطس الذى بدأ عام 27 قبل الميلاد الى عهد الامبراطور الفيلسوف ماركوس اوريليوس الذى انتهى 180م.
مائتى عام من التوسع الامبريالى، وتمدد النفوذ الرومانى، والاستقرار من خلال فرض القوة القاهرة التى قضت على حركات التمرد والعصيان، والانتصارات الساحقة على الأعداء، خصوصا فى الحروب ضد الفرس. كل هذا أدى الى حالة من السلام، والاستقرار، والازدهار الاقتصادى، والحضاري. هذا النموذج تعارف المؤرخون على أن يطلقوا عليه السلام الرومانى، أى السلام من خلال القوة القاهرة التى تسحق الأعداء، وتسكت المخالفين، وتفرض الهدوء والاستقرار وتحقق التنمية والازدهار لمن فرضها بغض النظر عما يحدث فى المجتمعات المفروضة عليها.
فى بداية ثمانينيات القرن الماضى شدنى كتاب «القياصرة قادمون» من تأليف «أمورى د.رينكور» Amaury De Riencourt، المولود فى فرنسا 1918 والمتوفى فى سويسرا 2005، والذى نشر بالإنجليزية عام 1957، وترجمه للعربية 1970 الأستاذ احمد نجيب هاشم. هذا الكتاب الذى يقارب 600 صفحة؛ يشرح بمنتهى الدقة تركيبة العقل السياسى الأمريكى الذى ورث الحضارة الأوروبية كاملة؛ منذ عصور الاغريق والرومان الى عصور النهضة، والأنوار، والحداثة، ولكن لم يجذبه فى كل ذلك التاريخ الا الحضارة الرومانية؛ لذلك يطمح لأن يستعيد الإمبراطورية الرومانية بكل تفاصيلها؛ سواء مجلس شيوخها، أو أباطرتها، وقياصرها، لذلك كانت كل المؤسسات الاتحادية الكبرى، سواء الكونجرس أو المحكمة الدستورية تستلهم أنماط العمارة الرومانية. فما أن تخلصت الولايات المتحدة من الاستعمار القديم الساذج حرص الآباء المؤسسون على ان يستعيدوا أمجاد الإمبراطورية الرومانية؛ كما يقول مؤلف كتاب القياصرة قادمون، وكانت توجهاتهم أن تكون الولايات المتحدة الامريكية وريثة الإمبراطورية الرومانية، وأن تحقق فى العالم الحديث ما حققته الإمبراطورية الرومانية من أمجاد.
وتأسيسا على هذه الحقائق ندرك أن ما يقصده الرئيس الأمريكى بالسلام من خلال القوة، أو فرض السلام بالقوة هو استحضار كامل لمفهوم السلام الرومانى، ولكن تحت عنوان السلام الأمريكى Pax American، أى فرض السلام من خلال القوة الامريكية القاهرة التى تتمدد وتتوسع بصورة امبريالية لتقضى على كل الأعداء الموجودين أو المحتملين، وتسكت كل المعارضين، وتنتصر على كل المنافسين، وبعد ذلك تحقق الاستقرار والسلام والتنمية والازدهار تحت المظلة السيادية الامريكية. السلام الأمريكى هو نفس صورة السلام الرومانى فى العصر القديم؛ سلام مفروض من القوى على الضعيف، يعنى فى جوهره خضوع الضعيف أو على الأقل استسلامه، ولذلك هو فى حقيقته سلام من خلال الاستسلام، واستقرار وتنمية وازدهار تحت مظلة نمط قديم جديد من الامبريالية الحداثية التى تظللها أغصان الشرعية الدولية التى تملكها وتديرها القوة وليس الحق أو القانون.
أما رؤية حكومة اليمين الإسرائيلى المتطرف حول إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، وخلق شرق أوسط جديد، وفرض السلام من خلال القوة، واليد الإسرائيلية الطويلة التى تصل الى كل شبابيك بيوت الشرق الأوسط، وتخترقها، وتقتل من تريد فى غرفة نومه، فهو سلام إقليمى تماما مثل السلام الرومانى، أو السلام الأمريكى، ويمكن أن يطلق عليه كذلك باللغة اللاتينية Pax Israeliana، حيث تفرض إسرائيل بقوتها القاهرة ـ التى أثبتت فعاليتها خلال الشهور الماضية ـ الهيمنة الكاملة على الإقليم بعد ان تقضى على الأعداء الحاليين والمحتملين، وتخرس الأصوات المعارضة، وتتمدد وتتوسع لتحقيق الأحلام التوراتية، وبعد ذلك يتحقق الاستقرار والازدهار والتنمية والرخاء، بعد القضاء على كل الأعداء والمعارضين. هذا هو جوهر مفهوم السلام من خلال القوة الذى تحدث عنها كثيرا كل من الرئيس الأمريكى وصديقه الحميم رئيس الوزراء الإسرائيلي.
السلام من خلال القوة عبارة لم تتغير معانيها ودلالاتها خلال الألفى سنة الماضية؛ جوهرها إخضاع الأقل قوة لإرادة الأكثر قوة، وتعظيم القوة القاهرة على حساب جميع القيم والمعايير الإنسانية والقانونية، وتقنين النزعات الامبريالية، وشرعنتها من خلال منحها غطاء أخلاقيا وهو تحقيق السلام. السلام من خلال القوة هو صوت الاستعمار الامبريالى على مر التاريخ، وهو النهاية الحقيقية لإرادة الشعوب، وسيادة الدول. وللأسف يمر هذا الخطاب الاستعلائى عبر بعض الفضائيات العربية مرورا سلسا كالماء السلسبيل، لا يستثير من يرددونه، ولا يبعث فى نفوسهم أى مشاعر وطنية أو قومية أو إنسانية، عنوان امبريالى، ونوايا استعمارية موجهة نحو منطقتنا تمر وكأنها بشرى بمستقبل زاهر سوف يأتى به السيد العالمى، أو السيد الإقليمى التابع للسيد العالمى، المتوهم الحالم بأمجاد ملك سليمان دون جنود من الجن تؤسس هذا الملك وتحرسه.
نقلا عن صحيفة الأهرام المصرية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة