منذ فجر التاريخ، كان العقل البشري ساحة صراع بين الحرية والتقييد، بين الإبداع والجمود، وبين التفكير المستقل والتلقين القسري.
فالإنسان ليس مجرد كائن بيولوجي، بل هو عقل مفكر، قادر على التأمل وإعادة النظر في الأفكار والمفاهيم التي يُنتجها أو يتلقاها. ولكن، ماذا يحدث عندما يُفرض عليه نمط فكري جامد يمنعه من التساؤل؟
عندما يُصبح العقل رهينة للمعتقدات المطلقة التي تُحرّم النقد والمراجعة، هل يظل الإنسان سيداً لأفكاره أم يُصبح مجرد ناقلٍ لها من دون وعي؟ لم يعد اغتصاب العقل مقتصراً على القمع المباشر، بل أصبح يتجلى في أشكال أكثر تعقيداً، حيث تُستخدم الأيديولوجيا، سواء الدينية أو الفكرية، لإعادة تشكيل الوعي وتوجيهه وفق رؤية جامدة لا تقبل المراجعة. يتم ذلك من خلال تحويل الأفكار إلى مسلّمات نهائية، تُعامل على أنها حقائق مطلقة لا تقبل التساؤل. حين يُفرض على الأفراد أن ينظروا إلى مفاهيمهم الخاصة بوصفها النموذج الأوحد للحقيقة، يصبح التفكير المستقل تهديداً، والشك انحرافاً، والسؤال جريمة. التراث الفكري يشكّل جزءاً أساسياً من هوية الشعوب، لكنه حين يتحوّل إلى مقدّس لا يُسمح بمراجعته، يصبح أداة لقمع التساؤل وتقييد الفكر.
فالتعامل مع الماضي ليس باعتباره تجربة إنسانية متغيرة، بل كحقيقة ثابتة يُعاد إنتاجها من دون مساءلة، يؤدي إلى إغلاق باب الاجتهاد ويحول أي محاولة لإعادة التفسير إلى خروج عن المألوف. يتم اغتصاب العقل هنا ليس بالقوة المباشرة، ولكن عبر منظومة ذهنية تُلقّنه بأن التساؤل ذاته خروجٌ عن المسار الصحيح. وبهذه الطريقة، لا يُفرض القيد من الخارج، بل يُزرع داخل الوعي، فيصبح الأفراد هم أنفسهم الحراس على أفكارهم، يحاصرون ذواتهم خشية الوقوع في «الخطأ».
تُستخدم ثنائية الخير والشر، الحق والباطل، الإيمان والكفر كأداة فعّالة في محو المنطقة الرمادية من التفكير. يتم تقسيم العالم إلى نقيضين، حيث يُصنَّف أي فكر نقدي أو مخالف على أنه خطر وجودي يجب مقاومته. هذه الثنائية لا تخلق فقط انغلاقًا فكرياً، بل تؤسس لحالة من العزلة الفكرية، حيث يصبح الانتماء إلى الجماعة الفكرية شرطاً للقبول الاجتماعي، بينما يُنظر إلى الخروج عن الإجماع على أنه تهديد يجب إقصاؤه.
ومع الوقت، يتحول التفكير النقدي من كونه حقاً طبيعياً إلى ممارسة محفوفة بالمخاطر، تجعل الأفراد يترددون قبل مساءلة الأفكار التي نشأوا عليها. في سياقات التوظيف الأيديولوجي، تتحوّل المفاهيم الروحية إلى أدوات ابتزاز نفسي. فبدل أن يكون الإيمان تجربة شخصية قائمة على الاختيار، يصبح حالة من الخضوع القسري خوفاً من العذاب، مما يلغي تماماً فكرة المسؤولية الفردية والبحث عن الحقيقة الذاتية.
تُصبح العقيدة هنا ليست مساحةً للتأمل، بل أداة لضبط الفكر والتحكم في تفاصيل حياة الأفراد، حيث يُنظر إلى أي محاولة للخروج عن الخطاب المهيمن على أنها تهديد يتطلب المواجهة. في العصر الحديث، لم تعد وسائل التأطير الفكري تعتمد فقط على النصوص الدينية أو المرويات التاريخية، بل أصبحت تتخذ أشكالاً جديدة أكثر تعقيداً.
تسهم وسائل الإعلام والتكنولوجيا الحديثة في تعزيز التصورات المسبقة، حيث يتم تقديم الأفكار داخل قوالب مغلقة تمنع التفاعل النقدي معها. الفضاء الرقمي نفسه أصبح مسرحاً لإعادة إنتاج المنظومات الفكرية التقليدية بطرق حديثة، مما يعزز من ظاهرة «غرف الصدى» التي تجعل الأفراد محصورين داخل مجالات فكرية لا تتسع إلا لما يتوافق مع قناعاتهم السابقة.
مواجهة اغتصاب العقل لا تعني بالضرورة رفض التراث أو التخلي عن المعتقدات، بل تكمن في القدرة على إعادة قراءتها بطريقة نقدية لا تلغي حق التساؤل. والتفكير الحر لا يعني بالضرورة الصدام، ولكنه يتطلب شجاعة في إعادة النظر، وقدرة على التمييز بين ما هو مقدس بطبيعته، وما هو نتاج اجتهادات بشرية قابلة للنقد والتطوير.
كما أن امتلاك الأفكار لا يتحقق إلا عندما يكون الإنسان قادراً على مراجعتها بحرية، من دون أن يشعر بأنه مذنب في حق معتقده أو مجتمعه. أما حين يصبح الفكر رهينة للأيديولوجيا والتقديس غير المشروط، فإنه لم يعد ملكاً لصاحبه، بل يتحول إلى سجن لا يُدرك أسيره أنه محبوسٌ فيه.
نقلا عن صحيفة الاتحاد
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة