التباعد بين الحليفين، التركي والأمريكي، بسبب الأزمة السورية لم يعد يترسّخ ويتعمّق مع الوقت وحسب، بل هو يتقدم تدريجياً نحو نقطة اللاعودة
مَنْ هو الثلاثي الأمريكي الذي لا يريد الاتراك أن يسمعوا بهم في هذه الآونة؟
التريو المشرف على الملف السوري باسم الإدارة الأمريكية:
الجنرال جوزيف فوتيل قائد القيادة المركزية الأمريكية، ومايك بومبيو مدير وكالة الاستخبارات المركزية، وروبريت ماكغورك منسق عمليات التحالف الدولي في الحرب على داعش.
التباعد بين الحليفين، التركي والأمريكي، بسبب الأزمة السورية لم يعد يترسّخ ويتعمّق مع الوقت وحسب، بل هو يتقدم تدريجياً نحو نقطة اللاعودة في المواجهة المفتوحة على أكثر من صعيد.
الخيارات التركية الأمريكية في سوريا باتت شبه محدودة، أما قبول هذه المواجهة التي ستكون مُكلفة للطرفين، أو قبول أحدهما ما يقوله الآخر والتراجع عن الكثير من مواقفه؛ وهو الاحتمال الأبعد في هذه المرحلة، كلاهما يحتاج أيضاً للدعم الإقليمي والغربي لحماية خط الرجعة وتحقيق ما يريد دون تقديم أي تنازلات تذكر، فلمَنْ ستكون الغلبة؟
الإعلام التركي يتهم واشنطن اليوم بتأمين نقل المئات من المسلحين الأكراد المحسوبين على حزب العمال الكردستاني، من قنديل في شمال العراق إلى القامشلي في شمال سوريا، تمهيداً لإيصالهم إلى عفرين لمحاربة الجيش التركي، بالمقابل هناك رغبة أمريكية واضحة في التمسّك بحلفائها المحليين من القوى الكردية، وبعض العشائر العربية داخل سوريا في محاولة لموازنة التمدد الاستراتيجي الواسع لروسيا وإيران وتركيا هناك.
إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أن إدارته ستدعم خطة المناطق الآمنة في سوريا، جاء مُفرحاً للأتراك على اعتبار أن ما يقوله هو مطلب تركي قديم، لكن فرحة أنقرة تبدّدت سريعاً عندما قالت واشنطن إن خطتها مرتبطة مباشرة بإنشاء قوة أمنية تتمركز في المناطق الحدودية التركية السورية، وتكون غالبيتها من قوات سوريا الديمقراطية؛ بهدف منع انتقال وتحرك التنظيمات الإرهابية في هذه المناطق. أنقرة لم ترفض الفكرة الأمريكية فقط لكونها تفتح الطريق أمام الشرذمة والتقسيم في سوريا كما تقول، بل أطلقت عملية "غصن الزيتون" في عفرين بهدف قطع الطريق على مشروع من هذا النوع.
حملات التعبئة والتجييش والاستنفارات الإعلامية والشعبية والسياسية التركية ضد الولايات المتحدة الأميركية في ذروتها، وهي ليست الأولى من نوعها، حيث سبق وشاهدنا حالات مماثلة في مطلع السبعينيات مع أزمة قبرص والعملية العسكرية الواسعة باتجاه الجزيرة، رغم التحذيرات والتهديدات الأميركية لأنقرة بإنهاء العملية وسحب القوات التركية، وعاشتها تركيا مرة أخرى في حادثة احتجاز الجنود الاتراك في السليمانية في منتصف عام 2003، والتي كادت أن تتطور إلى أزمة سياسية بين البلدين تم قطع الطريق عليها في آخر لحظة، لكن ما يجري هذه المرة يفوق أضعافاً حجم التوتر التركي الأمريكي في الحالات السابقة.
واشنطن لن تتخلى عن حليفها الكردي قوات سوريا الديمقراطية، ولن توقف عمليات إرسال شحنات الأسلحة والتجهيز والتدريب لهذه الوحدات، ولن تسمح ببناء تحالف ثلاثي روسي تركي إيراني في سوريا وتقف هي مكتوفة الأيدي تتفرج
هناك أولاً الاقتراح - الكارثة الذي يطرحه البعض في تركيا اليوم كخطوة بديلة في سيناريو الرد على الخطة الأمريكية في التمسك بمليشيات الوحدات الكردية كحليف عسكري وسياسي في سوريا، أبعد من إغلاق قاعدتي انجرليك ودياربكر التركيتين الاستراتيجيتين أمام القوات الأمريكية، بل التحرك للمطالبة بمعاقبة واشنطن تحت سقف حلف شمال الأطلسي مباشرة؛ كونها تخرق تعهدات واتفاقيات الحلف في تهديد أمن دولة عضو آخر داخل المنظومة الأمنية والعسكرية كما يرى.
وهناك ثانية، حقيقة أن أنقرة غاضبة من واشنطن التي لم تدعمها في عملية "درع الفرات" التي نفذتها العام المنصرم داخل الأراضي السورية، ولم تسلِّمها فتح الله غولن المتهم الأول بتنفيذ المحاولة الانقلابية الفاشلة في يوليو/ تموز عام 2016، ولم تتراجع عن دعم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الذي ترى فيه امتداداً لحزب العمال الكردستاني، لكن هناك حقيقة أخرى تتقدم على الأرض كلما حمّل الإعلام التركي الإدارة الأمريكية مسؤولية سقوط القتلى والجرحى في صفوف الجنود الاتراك بسبب السلاح والتدريب والتجهيز الأمريكي لمجموعات سوريا الديمقراطية في عفرين.
إلى جانب ذلك، أنقرة هي التي تتهم واشنطن اليوم بأنها وعدت بدعم مشروع تدريب وحدات الجيش السوري الحر وتجهيزها، وفتح الطريق أمامها، ثم تخلت عن ذلك، وأنها هي التي تحصّن مواقع الكانتونات الكردية في شمال سوريا لتكون ورقة المساومة لاحقاً في شكل الدستور السوري المرتقب، ولعب ورقة الطاقة السورية كقوة موازنة استراتيجية في بناء معادلات سوريا السياسية والاقتصادية وتعزيز حظوظ المساومة على رسم حدود الكيان الكردي لاحقاً.
نموذج آخر في ارتفاع بارومتر التوتر نقله الجنرال المتقاعد عدنان تانري فردي، مستشار الرئيس التركي للشؤون العسكرية، الذي انهمك قبل أيام بإحصاء الهزائم التي ألحقتها تركيا بالولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 2015، وبينها إخفاق واشنطن في حملتها الدعائية الرامية لزعزعة الاستقرار في الداخل التركي عقب الانتخابات البرلمانية التي جرت في يونيو/ حزيران عام 2015، وفشل المحاولة الانقلابية في منتصف يوليو / تموز 2016، ثم تعطيل عملية درع الفرات وإخراج القوات التركية من شمال العراق.
في مكان آخر نرى رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم الذي كان يقول "إنّ العلاقات مقطوعة مع النظام السوري، وإنّ تركيا لن تفاوض بشار الأسد على موضوع الأزمة السورية"، لكن يلدرم عاد وبدّل رايه وبدا يردد "إنّ انسحاب وحدات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي من منبج لمصلحة قوات النظام السوري مسألة لا يمكن وصفها بالسلبية"، هل يعني ذلك أن ما يُقال حول احتمال قبول أنقرة بإنهاء عملية عفرين لصالح انسحاب المقاتلين الأكراد من المدينة ودخول قوات النظام السوري إليها مسألة غير مستبعدة؟ هل هي خطوة تندرج في إطار الرد على أمريكا في سوريا؟
أقلام تركية مقربة من الحكم تشير إلى أن واشنطن، التي تحذر من إطالة عمر "غصن الزيتون" واستهداف المدنيين في عفرين، تريد من خلال ذلك تحويل هذه الإشاعات إلى حملات دعائية بهدف إيقاف الدعم الدولي للعملية، وبالتالي تقييد حركة وأنشطة القوات المسلحة التركية في المكان.
التصعيد التركي الواسع ضد الإدارة الأمريكية أوجزه مؤخراً ياسين أكتاي، أحد قيادي حزب العدالة والتنمية بقوله، "سندخل عفرين ومنبج إذا اقتضى الأمر" و سيناريو المواجهة العسكرية وارد.
آخر مؤشرات التصعيد وتفاقم الأزمة أيضاً أنباء تناقلتها بعض الصحف المؤيدة للحكومة التركية، بينها "يني شفق" و "يني آقيد" و "ستار" ، وهي تتهم الولايات المتحدة بأنها زوّدت المقاتلين الأكراد بالصاروخ الذي اُستُخدم في الهجوم ضد مصفّحة تركية في عفرين وأسفر عن سقوط 5 جنود أتراك قبل أيام.
ثم هناك ما يُنشَر حول 72 عملية استهداف للأراضي الحدودية التركية من قبل قوات سوريا الديمقراطية في الأسابيع الأخيرة، والتي أسفرت عن سقوط العشرات بين قتلى وجرحى، ومسارعة الأتراك إلى تحميل واشنطن المسؤولية المباشرة في هذه الهجمات التي تتم باستخدام السلاح الأمريكي، دون أن نغفل من يطالب من الحقوقيين بمقاضاة الإدارة الامريكية أمام محكمة الجزاء الدولية؛ بسبب دعمها لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا.
باختصار، أكبر ما تريده واشنطن حسب أنقرة هو تحريك أحجار الدومينو في الملف الكردي ببعده الإقليمي في أكثر من مكان، وما تريده أنقرة أشار إليه نائب رئيس الوزراء المتحدث باسم الحكومة التركية، بكير بوزداغ، الذي توعّد باستهداف كل من يرتدي زي الوحدات الكردية في منبج حتى لو كان من الجنود الأمريكيين.
أنقرة قد تؤدي خدمة كبيرة لإيران هنا، حيث كانت التحليلات الأمريكية قبل أشهر فقط تتحدث عن المواجهة الأمريكية الإيرانية في سوريا بعدما هدد الجنرال الايراني قاسم سليماني القوات الأمريكية بالانسحاب من سوريا "وإلا سوف تُفتح أبواب جهنم عليها"، وها هي أنقرة تتبرع للقيام بهذه المهمة كما يبدو.
كلما تقدمت عملية غصن الزيتون نحو مدينة عفرين زادت العلاقات التركية الأمريكية تعقيداً، لأن أنقرة تريد نقل المعارك إلى ضفتي الفرات بين منبج والقامشلي أيضاً، الرد الأمريكي كان مختصراً جداً وجاء عبر الجنرال جوزيف فوتيل، قائد القيادة المركزية الأمريكية، الذي قال إنّ بلاده تتفهم مخاوف أنقرة الأمنية في المناطق الحدودية الفاصلة بين تركيا وسوريا، لكن "هدفنا الرئيسي في سوريا هو هزيمة تنظيم داعش الإرهابي، وإننا على قناعة بأنّ قوات سوريا الديمقراطية هي الفصيل الأكثر فعالية في محاربة هذا التنظيم، لذا سنستمر في تقديم الدعم لهم"، هل يعني ذلك أن واشنطن لن تتخلى عن تواجدها إلى جانب حلفائها الأكراد في منبج وشرقها؟ وأن المواجهة التركية الأمريكية في منبج لن تكون بين المستحيلات؟ وهل سيسمح حلف شمال الأطلسي بهذه المواجهة بين حليفين أساسيين له تحت سقف هذه المنظومة العسكرية؟
أمريكيا كما هو واضح حتى الآن:
لن تغادر سوريا، وواشنطن لن تتخلى عن حليفها الكردي قوات سوريا الديمقراطية، ولن توقف عمليات إرسال شحنات الأسلحة والتجهيز والتدريب لهذه الوحدات، ولن تسمح ببناء تحالف ثلاثي روسي تركي إيراني في سوريا وتقف هي مكتوفة الأيادي تتفرج.
يقال إن نتائج معركة عفرين ستسهم في تحديد مصير معركة منبج المرتقبة، لكن واشنطن قد تخيب آمال البعض على ضفاف الفرات فهناك فارق كبير بين المكانين والمواجهتين وأسبابهما كما ترى هي.
موسكو أيضاً عندها ما تقوله في موضوع التوتر التركي الأميركي فجهودها لصب الزيت فوق نار الأزمة لا يمكن الاستخفاف بها، هي تريد توسيع رقعة الشرخ والتباعد بين أنقرة وواشنطن، والتقريب بين ما تقوله في موضوع التسوية في سوريا وبين تغيير المواقف والطروحات التركية وإضعاف ورقة واشنطن السورية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة