يستطيع الأزهر أن يضع زيارة البابا في إطار دعم مشروع الانفتاح والتسامح والحوار الذي يقوده في مصر وفي العالم الإسلامي في شكل عام.
كلما اتسعت موجة الإرهاب التي تضرب العالم، يشعر القادة الدينيون بأن مسؤوليتهم تفرض اللقاء للدعوة إلى الحوار ونبذ التعصب، وتأكيد أن التعاليم الدينية تحرّم الإرهاب وقتل الأنفس البريئة. وبالطبع يبقى السؤال، في مناسبة كل لقاء ديني، مثل لقاء الشيخ أحمد الطيب والبابا فرنسيس، عن مدى قدرة أصوات الاعتدال، من كل دين، على اختراق أدمغة وعقول الإرهابيين؟ وما إذا كان هؤلاء مهتمين أصلاً بالاستماع الى أصوات كهذه، فيما هم يكفّرون القائلين بالانفتاح والحوار، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين.
مع ذلك، يبقى لزيارة البابا فرنسيس إلى مصر في هذا الوقت معنى خاص. فهي تأتي بعد أقل من أسبوعين على الاعتداءات الإرهابية التي ضربت الكنيستين القبطيتين في طنطا والإسكندرية، وقتلت 46 مواطناً مصرياً، من مسلمين وأقباط. ومن الطبيعي بالتالي أن يجد الأقباط في زيارة البابا تعزية لهم وتضامناً معهم. لكن الزيارة لم تكن أساساً لهذا الغرض، فهي كانت مرتبة بهدف أن يشارك البابا في الجلسات الختامية للمؤتمر العالمي للسلام الذي نظمه الأزهر، وكان شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب قد دعا رأس الكنيسة الكاثوليكية للقيام بهذه الزيارة، كما جاءته دعوة مماثلة من الرئيس عبد الفتاح السيسي. لهذا يستطيع الأزهر أن يضع زيارة البابا في إطار دعم مشروع الانفتاح والتسامح والحوار الذي يقوده في مصر وفي العالم الإسلامي في شكل عام. ومن غير أن يقصد البابا أو أن ينوي التدخل في شأن كهذا، فإن دعم موقف الأزهر على هذا المستوى هو رد مباشر على الحملات الأخيرة في مصر التي طالبت الأزهر بتحديث الخطاب الديني، ملمّحة إلى أن التشدد والتطرف هما نتاج ثقافة وتعاليم تخرج من بين جدران الأزهر. بهذا المعنى يمثل اللقاء بين البابا فرنسيس والشيخ أحمد الطيب رداً مباشراً على مثل هذه الحملات، ودعماً واضحاً لدور الأزهر في قيادة نهج الاعتدال ونبذ التطرف.
يستطيع الأزهر أن يضع زيارة البابا في إطار دعم مشروع الانفتاح والتسامح والحوار الذي يقوده في مصر وفي العالم الإسلامي في شكل عام.
هذا على الصعيد الديني، أما سياسياً فليس مستغرباً أن يشعر المسؤولون المصريون بأن زيارة البابا تمثل شداً على أيديهم في الوجهتين اللتين تسلكهما قيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي: تعزيز مفهوم الوحدة الوطنية على قاعدة عدم التمييز بين المصريين بسبب انتماءاتهم الدينية، والتشديد على مسألة الأمن، التي أصبحت هاجساً لا يقلق الأقباط وحدهم، بدليل اتساع رقعة الأعمال الإرهابية إلى مناطق واسعة من مصر.
كان شيخ الأزهر واضحاً في رده على من يحمّلون المسلمين ودينهم مسؤولية الجرائم التي يرتكبها إرهابيون في أكثر من مكان باسم الإسلام. دعا الشيخ أحمد الطيب في كلمته أمام البابا إلى النظر إلى الجرائم والمجازر التي ارتُكبت في أوروبا في الحربين العالميتين، والى إلقاء الجيش الأمريكي قنابله النووية على اليابان، وتساءل عما إذا كان يصحّ أن تُنسب جرائم كهذه إلى الحضارة الأوروبية أو الأمريكية، بالطريقة نفسها التي يتم بها ربط جرائم وأعمال إرهابية يرتكبها اليوم بعض المسلمين بتعاليم الدين الإسلامي. ذلك أن المجرمين موجودون في كل دين. وكان البابا فرنسيس نفسه أكد هذه الحقيقة في رده على جريمة ذبح كاهن في كنيسته في شمال فرنسا في العام الماضي على يد أحد الإرهابيين. قال البابا آنذاك: «لا أعتقد أن من الإنصاف أن نربط الإسلام بالعنف. فإذا كنت سأتحدث عن إرهاب إسلامي فإن عليّ أن أتحدث عن إرهاب مسيحي أيضاً. ففي كل يوم نقرأ في الصحف عن أعمال عنف في إيطاليا. عن شاب يقتل صديقته. أو آخر يقتل والدة زوجته وجرائم أخرى مماثلة. وهؤلاء كلهم مسيحيون».
هذه النظرة المنفتحة التي تدعو إلى عدم ربط التعاليم الدينية بالجرائم التي يرتكبها أتباع الأديان المختلفة هي التي تدفع إلى التساؤل مجدداً عن دور لقاءات مثل الذي شهده الأزهر في الحد من موجة الإرهاب الذي يجتاح العالم اليوم. ذلك أن الإرهابيين هم مجرمون وليسوا متدينين. هكذا يجب النظر إلى أعمالهم والتعامل معهم.
لكن، وبصرف النظر عن النتائج المباشرة، فإن الطبيعي والمؤمل أن تخلق زيارة البابا مناخاً من الحوار والتسامح، تحتاجه مصر والمنطقة العربية بشدة. ليس الكلام الذي يقال في مناسبات كهذه وحده هو المهم. إنما التعابير الجسدية والحرارة التي ميزت اللقاءات، وعلى الأخص ذلك الاحتضان العفوي والاستثنائي للبابا من جانب شيخ الأزهر، تكاد تقول أكثر مما تقول الخطب.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة