تقول المعلومات المتداولة أن سفينة كانت متجهة إلى إحدى الدول الأفريقية تعرضت لعطل وتوقفت قبالة ساحل بيروت.
بعد اتضاح الأبعاد الكارثية للانفجار الذي حدث في مرفأ بيروت يوم الثلاثاء 4 أغسطس 2020، والآثار الاقتصادية والإنسانية والصحية المروعة التي لحقت بعشرات الآلاف من اللبنانيين نتيجة له، فإنه لابد أن يكون هناك من يتحمل مسؤولية هذه الكارثة. وبالفعل، أعلن رئيس الوزراء تشكيل لجنة من ممثلي عدد من الجهات الحكومية لإجراء تحقيق سريع، وصدر قرار بالتحفظ على عدد من المسؤولين عن الجمارك والتخزين في المرفأ . هذا في الوقت الذي طالب فيه عدد من السياسيين اللبنانيين، منهم سعد الحريري ووليد جنبلاط، بضرورة اشتراك لجنة تحقيق دولية حتى يتم ضمان نزاهة التحقيق وشفافيته، وأنهم يتخوفون من "لفلفة" الموضوع لحماية أصحاب المصالح السياسية وإبعاد أية مسؤولية عنهم. وفي نفس السياق، أكد الرئيس الفرنسي ماكرون ضرورة إجراء تحقيق دولي وذلك خلال زيارته لبيروت يوم 6 أغسطس.
والحقيقة أنه يوجد نوعان من المسؤولية: الأولى، مسؤولية قانونية مباشرة تتعلق بالموظفين العاملين في المرفأ. والثانية، مسؤولية سياسية عن الظروف التي أحاطت بتخزين هذا الحجم الهائل من المواد شديدة الانفجار في مرفأ تجاري غير مخصص ولا مؤهل لتخزين هذه المواد، وفي وسط منطقة مدنية آهلة بالسكان. والثابت من المعلومات حتى الآن هو أنه تم تخزين 2750 طن من مادة نترات الأمونيوم شديدة الانفجار في أحد عنابر المرفأ من العام 2014، وفقا لتصريحات رئيس الوزراء اللبناني ومدير الأمن العام ومدير جمارك المرفأ. وتثير هذه المعلومات ثلاثة أسئلة أساسية لابد من تمحيصها والتفكير فيها.
السؤال الأول يتصل بظروف وصول هذه المواد إلى مرفأ بيروت، وتقول المعلومات المتداولة أن سفينة كانت متجهة إلى إحدى الدول الأفريقية تعرضت لعطل وتوقفت قبالة ساحل بيروت، وعندما تبينت طبيعة حمولتها من نترات الأمونيوم، تم التحفظ عليها والقبض على بحارتها. وبعد عرض الأمر على قاضي الأمور المستعجلة، وقيام إحدى شركات المحاماة اللبنانية بإعداد مذكرة قانونية، تم السماح لهم بمغادرة لبنان وبتخزين المواد المتفجرة في أحد عنابر المرفأ لحين بيعها.
ولا يمكن تصديق مثل هذه الرواية بدون تحليل. فهل كانت السفينة متجهة أصلا إلى مكان آخر وأصيبت بعطل؟، ومن هم ملاك الشحنة التي كانت عليها؟، وإذا كانت شحنة تجارية حصلت على التراخيص القانونية اللازمة فلماذا لم يطالبوا بها أو يحاولوا استعادتها؟، أم أن مرفأ بيروت كان هو مقصد السفينة، وأن مالك هذه الشحنة من نترات الأمونيوم هي إحدى الشركات أو الجهات التجارية المرتبطة بحزب الله؟.
يؤكد الصلة مع حزب الله أن مرفأ بيروت يخضع لسيطرته ونفوذه، ومن ثم فإن ما حدث في عام 2014 كان دون شك تحت سمعه وبصره. ويؤكده أيضا أن المجموعات والخلايا التابعة للحزب تستخدم هذه المادة في عملياتها الإرهابية، كما هو ثابت في القبض على عناصرها في قبرص عام 2012 والكويت في عام 2015 وبوليفيا عام 2017 وألمانيا عام 2020.
والسؤال الثاني يتصل بمسؤولية مجلس الوزراء والهيئات الأمنية والاستخباراتية عن استمرار تخزين هذه المواد في المرفأ لمدة ٦ سنوات، رغم أنه كانت هناك مراسلات تشير إلى خطورة استمرار هذا الوضع الذي يخالف أبسط القواعد الخاصة بتخزين هذا النوع من المواد شديدة الانفجار. فكيف يمكن تفسير تراخي عشرات المسؤولين من الوزراء وكبار الموظفين؟، وهل كان السبب هو القصور والإهمال أم كانت هناك قوى سياسية قاهرة منعتهم من اتخاذ القرار بنقل هذه المواد إلى مخازن آمنة أو بيعها إذا كانت الهيئات الحكومية لا تحتاج إليها؟. وبالطبع لا تتوافر مواصفات هذه القوى القاهرة إلا في حزب الله الذي امتلك ناصية الوجود العسكري والنفوذ السياسي في لبنان خلال هذه الفترة.
أما السؤال الثالث، فيتعلق بكيفية حدوث الانفجار. فمركب نترات الأمونيوم هو مركب كيمائي يستخدم في صناعة الأسمدة والتعدين وفي أعمال التفجير في المحاجر. ولا تنفجر هذه المادة ذاتيا، ولكنها تتحول إلى مادة شديدة الانفجار عندما تتعرض لمصدر حراري. فما الذي أدى إلى هذا الانفجار الهائل في مرفأ بيروت؟ هل كان السبب قنبلة ألقتها طائرة مسيرة إسرائيلية (درون)، أم بسبب صاروخ انطلق من سفينة عسكرية في البحر، أم بوضع "مصدر حراري" بواسطة أحد الأشخاص فى العنبر الذي وجدت فيه، أم أنه –كما ذكر مدير الجمارك-بسبب عمليات لحام للباب الرئيسي للعنبر؟.
بالطبع فإن الأولوية العاجلة هي مواجهة الآثار الإنسانية لما حدث لآلاف الناس من جرحى ومفقودين ومشردين، ولكن لا ينبغي أن تكون هذه الأولوية على حساب التحقيق الجاد فيما حدث، وهل كان نتيجة لإهمال وتقصير عدد من صغار الموظفين كما تريد بعض الدوائر أن نصدق، أم أنه نتيجة لأوضاع الحكم في لبنان والنفوذ المتزايد لحزب الله واستئثاره بعملية صنع القرار.
المطلوب، هو تحقيق يصل إلى الأسباب الحقيقية لهذه الجريمة والأوضاع والسياسات التي أدت إلى حدوثها، وعدم الاكتفاء بتقديم "كبش فداء" لتهدئة الرأي العام اللبناني الغاضب وإزاحة الأنظار عن المسؤولين الحقيقيين.
وأعتقد أن المجتمع الدولي الذي انتفض لمساعدة شعب لبنان لن يوافق إلا على تحقيق مثل هذا، وأن تكون نتائجه مدخلا لإصلاح حقيقي في لبنان يُنهي كافة مظاهر الفساد السياسي والمالي والإداري. وهو نفس مطلب الحراك الشعبي اللبناني الذي انطلق في أكتوبر 2019، وتجدد بعد كارثة الانفجار.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة