سؤال قديم جديد يلح على الذهن: لماذا اختار الله سبحانه اللغة العربية لينزل بها الكتاب الذي ختم به وحي السماء إلى الأرض؟ ولماذا اُختير العرب لحمل هذه الرسالة الخاتمة؟
ومع الإقرار بأن أفعال الله سبحانه وتعالى لا تعلل، ولا تبرر، ولا يرد فيها السؤال لماذا؛ لذلك فإن طرح هذا السؤال هو للتدبر والتأمل واكتشاف الحكمة الكونية التي من الممكن أن يتم ترتيب أفعال إنسانية ومجتمعية بناء عليها.
هناك حقيقة تاريخية أثبتتها دراسات علم اجتماع الدين sociology of religion والذي يعرف أيضا بعلم الاجتماع الديني، هذه الحقيقة تقول إن هناك علاقة جدلية بين الدين وبين المجتمع الذي يظهر فيه للمرة الأولى، أو الذي يتولى تفسيره وحمله ونشره.
في هذه العلاقة يتشكل فيها الدين ذاته بمعطيات الثقافة الموجودة حين ظهوره، ويسهم هو كذلك في تشكيلها فيما بعد، ولذلك فإن جميع الأديان تتأثر وتؤثر في محيطها الثقافي من حيث الفهم والتفسير والإدراك.
وإذا نظرنا إلى العرب عند نزول الوحي نجد أنهم قوم حضارتهم في لغتهم، وكل إسهامهم الإنساني كان في تطوير وإبداع هذه اللغة العظيمة، لم يهتموا كثيرا بالعمائر والأبنية مثل الفراعنة، ولا بالخرافات والأساطير والفلسفات المغرقة في الافتراض والخيال مثل الحضارات المجاورة عند الهنود والفرس والرومان.. كل اهتمامهم كان في الإبداع المعنوي في لغة معجزة لا تضاهيها لغة على ظهر الأرض، ولذلك أجرم بعض أنصاف المثقفين ممن تصدروا الفكر والفلسفة والأدب في الفترة الأخيرة حين نظروا لحضارة جزيرة العرب من زاوية الإسهام المادي في الأبنية والعمائر والمعابد، لأن عقولهم لم تستطع أن تدرك أن حضارة العرب أبدعت أكثر من الجميع في التراث غير المادي؛ في بناء حضارة جوهرها اللغة العربية إلى درجة أن يختارها الله سبحانه لحمل رسالته الأخيرة للبشرية؛ تلك الرسالة الخالدة المتجددة التي تتوسع تفسيراتها وفهومها مع تقدم الزمان، وتوسع الإيمان فيها في مساحات المكان.
في نقاش مع أحد المتخصصين في التكنولوجيا سألته عن معنى "الميجابكسل megapixel" عرفت أنها عدد النقاط التي يمكن أن تصورها الكاميرا، والميجا تعني مليون نقطة، وكلما كانت الكاميرا قادرة على التقاط عدد أكبر من الملايين كانت أكثر دقة في نقل حقيقة الواقع.. هنا نكتشف حقيقة اللغة العربية مقارنة بباقي اللغات، وهو مدى قدرة اللغة على نقل الواقع بصورة أكثر دقة من خلال عدد الكلمات والمصطلحات القادرة على وصف نقاط الواقع بصورة أكثر وضوحاً.
اللغة العربية تحتوي على ملايين الميجابكسل بلغة تكنولوجيا التصوير، فهي الوحيدة التي يوجد فيها عشرات الكلمات التي تصف درجات العطش عند الإنسان، وهي الوحيدة التي يوجد فيها لكل حيوان لفظ يصف صوته وألفاظ متعددة تصف أعضاء جسده، وهي الوحيدة التي تحتوي على أكثر من 300 اسم للأسد، وأكثر من 100 اسم للخمر و24 اسماً لدرجات الحب... إلخ
اللغة العربية هي الوحيدة التي للكلمة فيها معان متعددة حسب السياق، وحسب التشكيل وحسب طريقة النطق، ولذلك نشأت أصناف من الشعر والبديع مثل شعر المربعات المنتشر في صعيد مصر الذي يوظف اللفظ الواحد في دلالات متعددة، وأحيانا متناقضة، وأقربها مثلا كلمة العين التي تعني عضو الإبصار، وبئر الماء، وجوهر الحقيقة، وقلب المكان، ونقطة الحدث... إلخ
اللغة العربية هي الوحيدة التي يحكم بنيتها منطق عقلاني قابل للبرمجة، ففي الإنجليزية والفرنسية مثلا كلمات مختلفة للألفاظ المشتقة من فعل كتب مثل: مكتب ومكتبة ومكتوب وكتاب وكاتب... إلخ. أما في العربية فهناك ميزان منطقي يمكن إدخاله في برنامج على الحاسوب للاشتقاق الآلي من الجذر اللغوي، بأن تضع حرف الألف بعد الحرف الأول من الجذر فيكون اسم فاعل، وإذا وضعت حرف الميم قبل الحرف الأول للجذر وحرف الواو قبل الأخير يعطيك اسم مفعول... وهكذا.
لا توجد لغة في العالم يمكن برمجة نظام الاشتقاق فيها على الحاسوب مثل اللغة العربية، وقد أشرفت على تنفيذ هذا البرنامج فعليا، ولكن شاءت الأقدار ألا يكتمل. لذلك يكون من المنطقي أن يتحدى القرآن الكريم البشر أنه سهل وميسر بحكم اللغة التي جاء بها " وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍۢ" (القمر،17).
وهنا يثور سؤال آخر أكثر إلحاحاً وألماً، إذا كانت العربية بهذه الحالة العظيمة؛ فلماذا تراجعت؟ ولماذا أصبحت عسيرة، وصعبة التعلم حتى على أهلها، والناطقين بها؟ ولماذا صار التلاميذ يهربون من تعلمها ويجدون صعوبة في ذلك؟ ... والإجابة أن العربية في تاريخها خدمها غير العرب، وأبدع في كشف كنوزها وأسرارها، ووضع قواعدها ومعجمها وقواميسها غير العرب من الشعوب التي دخلت في الإسلام، وكانت العربية طريقها ووسيلتها لفهم هذا الدين، لذلك كان غالبية من أبدعوا في علوم اللغة العربية من غير العرب.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة