منذ أن أعلن الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن عن نيته سحب القوات المسلحة الأمريكية المتواجدة في أفغانستان منذ عقدين.
ارتفع في فضاء الجدل السياسي الأمريكي تساؤل حول مصير القوات الأمريكية في الشرق الأوسط، وهل حان وقت انسحابها بالمثل أم أن هناك حاجة استراتيجية أمريكية للبقاء؟
قبل الجواب، ربما تتحتم الإشارة إلى بعض الأرقام الخاصة بعديد القوات الأمريكية في الخليج العربي والشرق الأوسط، والذي لا يتجاوز في الآونة الأخيرة 35 ألف جندي، وهو رقم ضئيل حال مقارنته بما تم إرساله في 2003، أي ساعة غزو العراق، والذي بلغ 285 ألفا، وأقل كثيرا جدا، بل لا يقارن بالنصف مليون جندي أمريكي، أولئك الذين شاركوا في حرب الخليج الثانية.
والشاهد أنه على الرغم من القلة النسبية لعديد القوات الأمريكية إلا أن واشنطن اليوم باتت منقسمة على ذاتها بين فريقين: الأول يرى أن الانسحاب أصبح حاجة آنية ضرورية، فيما الثاني على العكس يؤيد بقاء تلك القوات لارتباط المشهد بمصالح الولايات المتحدة في العقود القادمة، وبخاصة مع تغير معطيات الجغرافيا السياسية وختلاف الأوضاع القطبية؛ إذ لم يعد العالم ثنائيا كما كان في زمن الحرب الباردة، بل باتت هناك تعددية قطبية تتجلى في سماوات المسكونة.
أنصار الانسحاب يميلون إلى القول بأن الشرق الأوسط لم يعد منطقة استراتيجية من الفئة الرفيعة بالنسبة لواشنطن. هذا الفريق عينه يزعم أن الإدارات غير الرشيدة التي تقود بعض دول المنطقة هي المسؤولة عن زعزعة الاستقرار السياسي، وأن القوات المسلحة الأمريكية ليس من مهامها حسب الدستور الأمريكي أن تقوم على تهدئة التوترات أو تخفيضها في كل دولة على حدة.
عطفا على ما تقدم، وفي ضوء الأزمة المالية التي خلفتها جائحة كورونا في الداخل الأمريكي، ومع ارتفاع رقم الدين العام الأمريكي لقرابة 27 تريليون دولار، فإن الانسحاب يوفر أموالا طائلة تنفق على تلك القوات يمكن توفيرها.
ولعل النقطة الحيوية بل الاستراتيجية في محاججة الداعمين لفكرة الانسحاب إنما تقوم على القول بأن كل الانتباه والحشود يجب أن تتحول إلى موقعين، بداية المسرح الأوربي ومحاولة تقوية حضور الناتو في القارة العجوز، وانتظارا لما ستسفر عنه المناوشات مع روسيا، كما هو الحال في أوكرانيا، والثاني شرق آسيا، بالقرب من المحيطين الهادي والهندي، تحسبا للصراعات القادمة لا محالة مع الصين، والحديث عما يجري في منطقة بحر الصين الجنوبي تكفي السائل للبحث عن الجواب.
على الجانب الآخر، يقطع أنصار البقاء بأن دور القوات الأمريكية في المنطقة يتجاوز مسألة الدعم العسكري في العراق وأفغانستان، فهناك حاجة لقيام تلك القوات بالمزيد من التدريب والتأهيل وتقديم المشورة والدعم الفني للقوات المحلية.
وهناك كذلك القول بأنه إذا كانت واشنطن لم تعد في حاجة إلى الشرق الأوسط، إلا أن الجزء الآخر من حلف الأطلسي، أي أوربا، لا يزال يعتمد بشكل رئيسي على تلك المنطقة. وعليه، فإن أي قصور في الإمدادات يضع أوربا بأكملها تحت رحمة القيصر الروسي، والقادر على فتح وغلق صنابير النفط والغاز عن أوروبا، ما يجعل الناتو يخسر جولة حاسمة أمام موسكو، ومن غير أن يطلق رصاصة واحدة علي الروس.
وفي حديث البقاء جزئية مهملة، وهي إعطاء قبلة الحياة من جديد للجماعات الإرهابية للعودة مرة أخرى للحياة، وإعاثة الفساد الأدبي والأخلاقي، ونشر الرعب الفكري بين شعوب المنطقة، الأمر الذي سينعكس حتما على مصالح الولايات المتحدة الجوهرية في المنطقة وبقية أرجاء العالم.
أضف إلى ذلك أن المخاوف المحدقة بأفغانستان من جراء انسحاب القوات الأمريكية، واحتمالات نشوء وارتقاء جماعة طالبان من جديد، ستتعزز شرق أوسطيا، ما يجعل من زمن الأفغان العرب أمرا قابلا للتكرار، مع الأخذ في عين الاعتبار وعلى حد تعبير خبراء استراتيجيين في مجابهة الإرهاب حول العالم، إنه إن كانت كافورا وقندهار مدارس للإرهاب، فإن جماعات داعش في سوريا والعراق وما حولهما، قد افتتحت أكاديميات وجامعات للإرهاب وليس فقط مجرد مدارس.
أما النقطة المتعلقة بالأكلاف المادية، فيبدو الرد عليها يسيرا؛ إذ في القلب من موازنة الدفاع الأمريكية والتي تبلغ نحو 740 مليار دولار، لا تشكل نفقات 35 ألف جندي المبلغ الفاعل أو المؤثر.
ولعل هناك جزئية أكثر إثارة، ترتبط ارتباطا جذريا بفكرة مربعات النفوذ السياسي في المنطقة، وهو أمر أدركته مراكز الأبحاث الأمريكية في نهاية سنوات باراك أوباما الثماني؛ إذ تركت سياسته المعروفة بالقيادة من خلف الكواليس تأثيرات سلبية عديدة على الحضور الأمريكي التقليدي خليجيا وشرق أوسطيا، حين أحجم عن حسم الكثير من قضايا الصراع الملتهبة وقتها، مثل الأزمة السورية، بينما رآه العالم يهرول لتوقيع صفقة سيئة السمعة مع الإيرانيين عام 2015.
باختصار غير مخل، تبدو الصين على أتم استعداد لعملية الإحلال والتبديل إن جاز التعبير مع الولايات المتحدة؛ فالصين لديها مجموعة واسعة من المصالح في الشرق الأوسط، ومجموعة من الآليات المحددة بوضوح لمحاولة الوصول إليها، ويتقبل العديد من قادة الشرق الأوسط التواصل مع الصين.
تجيد الصين مغازلة العالم كله وليس دول المنطقة بأدواتها المالية والتجارية، وعبر فوائضها النقدية تفتتح طرق تجارة غير مرهونة أو مشروطة بحقوق الإنسان أو الديمقراطية، كما في النموذج الأمريكي.
أثبتت الصين، ورغم جائحة كورونا، أنها قادرة على التواصل مع أصدقائها في المنطقة ودعمهم ماليا وطبيا، وهو أمر حتما ستكون له ارتداداته في السنوات المقبلة، وما يعزز مكانتها المتنامية في جميع أنحاء المنطقة.
هل ستكون روسيا – بوتين بعيدة عن الساحة الشرق أوسطية والخليجية حال حملت أمريكا عصاها ورحلت؟
عند البروفيسورة، ماريا خودينساكايا غولينشيفا، كبيرة مستشاري إدارة تخطيط السياسة الخارجية بوزارة الخارجية الروسية، أن روسيا في الشرق الأوسط ذات توجه وطني ومتعددة الاتجاهات وواقعية ومنفتحة.
إضافة إلى ذلك، فإن موسكو تمزج بين العمل الدبلوماسي والمضني، واستخدام القوات العسكرية لوزارة الدفاع الروسية لأغراض مكافحة الإرهاب، وقد ظهر ذلك جليا في مواجهتها للدواعش في سوريا، ولا يقلل من ذلك كونها صاحبة رؤية براجماتية، لكنها مستنيرة في كل الأحوال.
حال الانسحاب، لن تكون واشنطن قادرة مرة جديدة على العودة إلى المنطقة إن استدعت الحاجة؛ إذ سيكون هناك سكان جدد قد وضعوا أياديهم على الموانئ والقواعد والمطارات التي كانت لهم في الشرق الأوسط.
في خطابه الذي ألقاه في الجامعة الأمريكية بالقاهرة في يناير 2019، قال وزير الخارجية السابق مايك بومبيو إن واشنطن قوة من أجل الخير في الشرق الأوسط، وأن هدف الأمريكيين هو الشراكة مع الأصدقاء ومواجهة الأعداء. هل واشنطن أمام اختبار جديد في المنطقة؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة