من الشائع في الفكر السياسي الأمريكي أن إسرائيل شأن أمريكي داخلي.
وأنه لا يوجد خلاف حقيقي بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري حول التعامل مع الحكومات الإسرائيلية، بصرف النظر عن شكل أو إطار الائتلاف الحاكم، ورغم ذلك التصور الكلاسيكي فإن ما جرى في الوقت الراهن في مسار العلاقات الثنائية يشير إلى عكس ذلك لعدة اعتبارات:
أولها: أن الخلاف بشأن التعامل مع الحالة الإيرانية والمسعى الأمريكي للتوصل إلى اتفاق مع طهران ظل محل تحفظ إسرائيلي حقيقي، وهو ما أكدته سلسلة اللقاءات الأمنية والاستراتيجية التي دارت بين المسؤولين من الجانبين (زيارة رئيس الموساد يوسي كوهين، ورئيس مجلس الأمن القومي مائير بن شبات لواشنطن، ثم زيارة وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن لتل أبيب، وخلال الوقت الراهن وفد ضم رئيس الأركان أفيف كوخافي، ورئيس الموساد يوسي كوهين، ورئيس شعبة الاستخبارات العسكرية "أمان" تمير هايمن، إضافة إلى رئيس مجلس الأمن القومي مئير بن شبات، وممثلين عن رئاسة الحكومة ووزارتي الدفاع والخارجية، وخبراء عسكريين استراتيجيين)، وهو الأمر الذي يعني عدم وجود حدود للتوافق بشأن التجاوب الأمريكي للطرح الإسرائيلي، أو على الأقل الإنصات للمخاوف الإسرائيلية حال إبرام اتفاق جديد، أو العودة للاتفاق القديم، خصوصا أن إسرائيل تراقب مباحثات فيينا عن قرب، وستتدخل لإفشال ما يجري خاصة في ظل وجود قناعة إسرائيلية متفق عليها في المستويين السياسي والاستراتيجي الإسرائيلي بأن الاتفاق لن يكون على حساب الأمن القومي الإسرائيلي، وأن تل أبيب في النهاية ستستمر في مجابهة أي مخاطر بإجراءات انفرادية أو بموافقة وعلم الإدارة الأمريكية أو من دونها، ولهذا سيستمر مخطط استهداف المنشآت النووية الإيرانية من قبل عناصر الموساد، ولن يقتصر على مفاعل نطنز، بل قد يمتد لفوردو وبوشهر، والمعنى أن إسرائيل لن تقبل بنصف حل وشبه خيار في التعامل مع الحالة الإيرانية، سواء نجحت مباحثات فيينا أو فشلت، حيث ترى أنه لا يجوز رفع العقوبات قبل أن توقف إيران إجراءاتها في تخصيب اليورانيوم وتوافق على تدمير أجهزة الطرد المركزية التي طورتها في السنوات الثلاث الأخيرة.
ثانيها: وجود تحفظات على الانفتاح الأمريكي على السلطة الفلسطينية في الوقت الراهن، واستئناف سياسة المساعدات (قيمة المساعدة الأمريكية للفلسطينيين ستبلغ 235 مليون دولار)، والإعلان عن فتح مكتب منظمة التحرير في واشنطن، والقنصلية الأمريكية في القدس الشرقية، وغيرها من الإجراءات الأمريكية، والتي تظل محل رفض إسرائيلي راهن خاصة مع التجاوب الفلسطيني للطرح الأمريكي بضرورة تجديد الشرعيات الفلسطينية، وهو ما دفع بإسرائيل إلى عدم إعطاء الضوء الأخضر للموافقة على إجراء الانتخابات في القدس، والمعنى أن الرؤيتين الأمريكية والإسرائيلية غير متفقتين ومرشحة للتصعيد في الفترة المقبلة في حال عدم موافقة إسرائيل على إجراء الانتخابات في القدس، رغم أن الإدارة الأمريكية قد تتفهم خطوة تأجيل الانتخابات لحين التوافق بشأنها.
ثالثها: تحفظ الداخل الأمريكي على آليات التعامل الراهن مع إسرائيل، ويكفي هنا الإشارة إلى مطالبة اللوبي الأمريكي جي ستريت في اجتماعه السنوي مؤخرا بضرورة تقليص المساعدات الأمريكية كوسيلة ضغط على الحكومة الإسرائيلية في حال عدم التجاوب الإسرائيلي مع الطرح الأمريكي للسلام والتسوية في الشرق الأوسط، وفي ظل استمرار رئيس الوزراء الإسرائيلي في موقعه، والمعنى أن هناك أصواتا أمريكية بدأت في التصاعد، مطالبة بمراجعة أسس العلاقات الأمريكية الإسرائيلية مع تعلية خيار أمريكا أولا، ومما يشير إلى أن مجريات وتطورات الأوضاع الأمريكية تعكس تحولا حقيقيا من جانب الديمقراطيين اليساريين تجاه إسرائيل، رغم ما يبذله اللوبي اليهودي "ايباك" في العمل على تطوير العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، والوقوف في مواجهة أي أزمات قد تتصاعد، وفي ظل دعوات تطلقها قيادات إيباك بإعادة النظر في بنود الحوار الاستراتيجي بين الجانبين، ما يشير بالفعل إلى تغيرات في نمط العلاقات الثنائية وعدم وجود توافقات عامة بين الجانبين، مثلما كان الوضع في إدارة الرئيس السابق ترامب.
رابعها: لا تحظى التدخلات الإسرائيلية الراهنة في قضايا الإقليم بقبول أمريكي عام، فصحيح أن إسرائيل خرجت في مواجهات مفتوحة مع إيران، بحثا عن خيارات جازمة لمواجهة أي تهديدات على أمنها في المتوسط والبحر الأحمر وفي الخليج العربي ومناطق أخرى، إلا أن الإدارة الأمريكية -التي ألحقت إسرائيل في القيادة المركزية للقوات الأمريكية في الشرق الأوسط مؤخرا، وضمنتها في التحالف البحري المواجه لمواجهة التهديدات الإقليمية- لديها تحفظات على الطرح الإسرائيلي لأمنها القومي، ومساحات التهديدات الحقيقية التي تواجهها، رغم تواصل مشروعات التعاون الاستراتيجي، ودعم أنظمة الدفاع المشتركة -التي توفر لإسرائيل الحماية المطلوبة دون مغالاة- وهو ما تتعامل معه على أنه أولوية استراتيجية يتطلب التعامل معها بجدية، وعدم الإنصات فعليا لوجهة النظر الأمريكية، بل وذهبت لإجراء مناورات في المتوسط، كدليل على استعدادها الاستباقي لمواجهة أي مخاطر من أي جبهة معادية.
ورغم التباين المطروح في المواقف والتوجهات بين واشنطن وتل أبيب التي عبّر عنها الوفد الموجود الآن في واشنطن، فإن هناك ضوابط عامة تحكم ما سيجري، وفي إطار سيناريو منضبط لا يدفع للمواجهة، مع التأكيد على أن إسرائيل -وفي توقيتات سابقة- ذهبت للدفاع عن أمنها بدليل قيامها بضرب المفاعل النووي العراقي بدون إحاطة الإدارة الأمريكية، كما تظل في الذاكرة الخلافات الهيكلية بين الجانبين في ملف المستوطنات في إدارتي بوش الابن وكلينتون، بل وشهدت ولاية الرئيس أوباما الكثير من التحفظات الأمريكية على مسارات التحرك الإسرائيلي في الإقليم، رغم أن هذه الإدارة هي من قررت منح الحكومة الإسرائيلية وقتها 39 مليار دولار على 10 سنوات، والرسالة أن التباين والتجاذب في المواقف المشتركة لا يؤديان إلى صدامات مباشرة، ولكن مع إدارة الرئيس جو بايدن فإن الحكومة الإسرائيلية تتوقع مزيدا من الخلافات، ليس تجاه التعامل مع الملف الإيراني فحسب، بل في ملفات الإقليم الأخرى، وهو ما سيدفع الجانبين إلى إعادة هيكلة الحوار الاستراتيجي الذي يجري بين الجانبين دوريا، بهدف التخفيف من حالة التأزم القائمة، والبحث عن توافقات حقيقية، وليست مجرد إقرار أو تمرير سياسات.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة