قد يبدو هذا السؤال غريباً بالنظر إلى الحملات الشرسة التي يشنها عدد كبير من الصحف ووسائل الإعلام الأمريكية على الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، ومحاولة شيطنته وتقليص شعبيته بإلصاق جميع الاتهامات والصفات السلبية به.
واتهامه بأنه السبب الأوحد لما وصلت إليه الولايات المتحدة من انقسام مجتمعي واضح ومن كبوة ديمقراطية وتعثر اقتصادي ومن اهتزاز صورتها خارجياً.
وذلك في محاولة واضحة للتأثير على الناخب الأمريكي لمنع إعادة انتخاب "الشيطان الأكبر" كما تراه ومنع شبح عودته للبيت الأبيض مرة أخرى، ومع الإعلام كان القضاء الذي جعل ترامب يدخل تاريخ أمريكا باعتباره أول رئيس سابق أو حالي في تاريخها يواجه اتهامات جنائية وصلت حتى الآن إلى ثلاث لوائح اتهام آخرها ما تم إعلانه مطلع الشهر الجاري حين وُجهت إليه تهم جنائية في تحقيق اتحادي في محاولته إلغاء نتيجة الانتخابات الرئاسية لعام 2020 والبقاء في سدة الحكم حينها، والتآمر للاحتيال على الولايات المتحدة، والتلاعب بأقوال شاهد، والتآمر على حقوق المواطنين، وتحميله مسؤولية أحداث الشغب التي وقعت قبل عامين ونصف العام في مبنى الكابيتول بالعاصمة واشنطن.
إزاء هذا الهجوم الإعلامي الشرس ولوائح الاتهامات الجنائية المحكمة التي تجاوزت في مجموعها الأربعين اتهاماً والتي ربما لم يواجهها أخطر المجرمين وزعماء العصابات في التاريخ، إزاء كل هذا قد يستغرب البعض من إثارة سؤال حول إمكانية عودة لترامب للبيت الأبيض في يناير/كانون الثاني بعد المقبل، بل إن هناك من يرى أن السؤال الأدق والأوقع والأصح هو: هل ينجو ترامب من السجن؟ وهل يستطيع أن يعود إلى بيته لا إلى البيت الأبيض بعد نهاية هذه المحاكمات التي يبدو أنها لن تتوقف قريباً وستستمر طيلة استمرار حملته الانتخابية؟
الواقع أنه لكل هذه الأسباب التي تحدثنا عنها التي يرى البعض أنها ستنتهي بترامب قابعاً في أحد السجون الفيدرالية كأول رئيس أمريكي، أو على الأقل ستنهي للأبد مسيرته السياسية وستقضي بلا رجعة على طموحاته الرئاسية، كثاني رئيس أمريكي ينتخب لفترتين غير متتاليتين، إلا أن العكس تماماً قد يكون هو الصحيح، فقد تكون الحملات الإعلامية الممنهجة والمحاكمات القضائية المتتالية سبباً رئيسياً في عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، فما يبدو جلياً حتى اللحظة أن مسار حملته الانتخابية قد أخذ منحى مختلفاً منذ توجيه لائحة الاتهام الأولى له في أبريل/نيسان الماضي وما صاحبها من حشد إعلامي يروج لها على أنها أخطر اتهامات يمكن أن توجه لأي شخص.
فقبل توجيه هذه الاتهامات وقبل بدء مسار المحاكمات كان يبدو أن منافس ترامب على ترشيح الحزب الجمهوري في الانتخابات التمهيدية رون ديسانتس يسير بخطى ثابتة لنيل ترشيح الحزب الجمهوري لخوض الانتخابات الرئاسية، فبعد انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بدا أن حاكم فلوريدا هو الفائز الأكبر من هذه الانتخابات بعد أن فاز باكتساح انتخابات حاكم الولاية واحتفظ بمنصبه بكل سهولة بفارق يزيد على 1.5 مليون صوت عن منافسه وبدأ يظهر كوجه جمهوري مفضل لكثير من الناخبين، وبدا منافسا جديا لترامب.
الأمر الذي أدركه الأخير، ما دعاه إلى تحذيره من الترشح في انتخابات الرئاسة الأمريكية في عام 2024، قائلاً إن ذلك سيضر بالحزب الجمهوري، بل وصل بترامب الخوف من منافسه إلى تهديده بالإفصاح عن معلومات خاصة بالسياسي البالغ 44 عاماً، دون تقديم تفاصيل، في إشارة واضحة إلى أن ترامب أدرك وقتها تماماً الواقع الجديد الذي فرضته الانتخابات النصفية، وحجم التهديد الكبير الذي يشكله ديسانتس عليه.
ظلت الأمور على هذا المنوال في ظل تقارب شديد في استطلاعات الرأي بينهما، وذلك حتى جاءت اللحظة المفصلية في أبريل/نيسان الماضي التي غيّرت اتجاه الأمور وحسمت المنافسة تقريباً بين الاثنين، وذلك عندما أصبح دونالد ترامب أول رئيس أمريكي يواجه اتهامات جنائية بعد أن قررت هيئة محلفين في نيويورك توجيه اتهامات إليه، ومنذ ذلك الوقت وشعبية ترامب في تزايد مستمر وازدادت قوة التأييد والدعم له بعدما نجح في تصوير نفسه كضحية وبعدما أدرك كثير من مؤيديه أن الاتهامات الموجهة إليه مسيّسة بشكل كبير وذات دوافع سياسية وأن هدفها عرقلة خوضه الانتخابات الرئاسية، حتى بعض خصومه أو غير المتحمسين له من الجمهوريين مثل لوك جوردون، الذين لا يؤيدون عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ينظرون إلى لوائح الاتهام المتلاحقة وإطارها الزمني الضيق ببعض الشك.
وهذا ما أوضحته استطلاعات رأي الناخبين الجمهوريين، فوفقاً لآخر استطلاع للرأي أجرته شبكة "سي بي إس نيوز" يقول 76 في المئة من الناخبين الجمهوريين المحتملين إن لائحة الاتهام بشأن الوثائق السرية كانت "ذات دوافع سياسية"، كما يقول 61% من الناخبين الجمهوريين إن لوائح الاتهام ضد ترامب لم تغير نظرتهم إلى الرئيس السابق، بينما يقول 14 في المئة إنها جعلتهم يرون ترامب بشكل أكثر إيجابية.
أما على مستوى المنافسة على ترشيح الحزب الجمهوري فأصبح الآن ترامب مسيطراً على جميع استطلاعات الرأي بشكل كبير وبفارق شاسع عن أقرب منافسيه، فبعدما كان الفارق بين ترامب وديسانتس في فبراير/شباط الماضي فقط نقطتين (41% مقابل 39%)، تبين نتائج الاستطلاعات الحالية أن نجم ديسانتس بدأ يبهت بينما ظل دعم وتأييد ترامب قوياً للغاية.
فوفقاً لآخر استطلاع، حصل ترامب على 54% بينما حصل رون ديسانتس على 17% فقط بفارق 37 نقطة، وهو الفارق الذي يبدو أنه يتسع مع كل اتهام جديد يوجه إلى ترامب، وهو ما يجعل فوز ترامب بترشيح الحزب الجمهوري يبدو وكأنه صار أمراً حتمياً، وهي الخطوة الأولى والصعبة في الطريق إلى البيت الأبيض، وهنا يبدو أننا سنكون على موعد مع جولة إعادة ثانية العام المقبل بين بايدن وترامب، وهنا يجب على بعض أنصار بايدن وبعض الديمقراطيين الذين كانوا يتمنون في البداية ترشح ترامب باعتبار أن الفوز عليه ممكن، إعادة التفكير في هذه الفرضية وتوخي الحذر جيداً في ظل شعبية لترامب تزيد مع كل اتهام جديد يوجه إليه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة