الرابحون كُثر في استمرار الأزمة وتشعيب عناصرها وإطالة أمدها، ولكن يبقى الخاسر الأول والأخير هو الجانب القطري.
يُشير منطق الرشادة السياسية في أدبيات السياسة، إلى أن قطر من المفترض أن تسلك مسلكاً سياسياً واستراتيجياً مختلفاً عما هو جارٍ في الوقت الراهن، وفي ظل مخطط قطري للبحث عن حل وخيار من منطق وطني بحت، وليس من منطق مصلحي مشترك، وفي هذا الإطار نعود بالأزمة إلى درجاتها الأولى التي انطلقت منها، خاصة أن قطر اختارت سيناريو إطالة أمد الأزمة مع العمل على تقليل الخسائر إلى أدنى درجاتها.
ما بين منطق الرشادة السياسية ومنطق العبث السياسي، والالتفاف على الحقائق والعمل على إدخال أطراف عدة في إدارة الأزمة تتركز عدة حقائق، منها أن هناك بالفعل رابحين من استمرار الأزمة، سواء على مستوى الإقليم أو خارجه.
إقليمياً تظلُّ تركيا التي تتبع خيار الانتهازية السياسية على رأس قائمة الرابحين هذه من استثمار المشهد كاملاً سياسياً واستراتيجياً، والعمل على الوجود عن قرب في مشاهد الأزمة بكل تفاصيلها، مع تقديم نموذج واقعي في ممارسة السياسة، والانطلاق لحسابات عدة في التوقيت نفسه، ولا شك أن تركيا قبل بدء الأزمة مختلفة عن تركيا مع استمرار الأزمة، ويقيناً فإن تبعات استمرار الموقف التركي ستكون لها حسابات وتقييمات على مستوى العلاقات التركية الخليجية، خاصة وقد اتجه الموقف التركي لدعم ومساندة قطر بعد التدريبات العسكرية الأخيرة، كما ستظل إيران تلعب دوراً مشبوهاً في محاولة منها لإحداث اختراق في العلاقات العربية القطرية، من منطلق المكايدات السياسية واستثمار العلاقات مع قطر في نقل رسائل للدول الأربع المقاطعة.
وكلما طالت الأزمة واستمرت على الأرض تبعاتها؛ نجح الجانب الإيراني في تحقيق مخططاته، خاصة أن إيران تدرك أن استمرار الموقف المتماسك والقوي للدول الأربع سيلقي بتبعاته على حدود الأزمة وتداعياتها، مع العمل على دعم الموقف القطري ودفعه للتشدد والتصلب في التوجه الراهن لحل الأزمة، وهو ما يدركه الجميع على مختلف المستويات .
دولياً تظلّ المواقف الدولية في حاجة لمراجعة مع اتجاه قطر للانفتاح على الموقف الأمريكي، الذي عاد مؤخراً للعب دور الوسيط غير المباشر، والعمل مع الوسيط الكويتي دون تقديم مقترحات مباشرة أو مبادرة يمكن البدء بها ولو إجرائياً، واكتفى بالوجود الشكلي في سياقات البحث عن حل، وعاد الجانب الأمريكي ليؤكد إمكانية تقديم تعهدات -شأنه شأن الوسيط الكويتي- بتقديم تعهدات أمنية وسياسية للدول الأربع المقاطعة للبدء جديّاً في حوار مباشر أو غير مباشر بين الجانبين، وهو ما اتبعه وزير الخارجية الأمريكي تليرسون في جولته الأولى الفاشلة، والذي تعامل بمنطق الهواة في إدارة الأزمة ففشل في أول إطلالة له دولياً، وهو ما سينعكس لاحقاً في ملفات أخرى مثل كوريا الشمالية، والوجود في ملف الاتصالات العربية الإسرائيلية، وتطورات الشأن السوري وغيرها.
تربح أمريكا من استمرار الأزمة مزيداً من المعطيات على الأرض، سواء في قيام اللوبي القطري في دوائر الكونجرس بالتلويح بعقد صفقات سلاح جديدة، وبدء حوار استراتيجي مع واشنطن حول احتياجات الجيش القطري ومتطلباته، وهو ما سيفيد المجمع الصناعي الأمريكي، ويدعم توجهات وزارة الدفاع عن قرب، ويدخل توجهات السياسة الخارجية الأمريكية مساحة من الإنجاز في ظل فشل واضح في ملفات إقليمية ودولية، بما في ذلك تداعيات الملف الإيراني وتدهور العلاقات مع روسيا.
وتربّح دول في الاتحاد الأوروبي، ومنها فرنسا وإيطاليا وبريطانيا، التي دخلت على خط الاتصالات في بدايات اندلاع الأزمة للبحث عن حل، وتوقفت مساعي التدخلات الدبلوماسية لهذه الدول وغيرها، ولم يعد سوى الوسيط الكويتي المستمر في البحث عن حل، والاستماع والإنصات للجانبين، ومحاولته التوصل لأفق سياسي تبدأ منه منطلقات أولية لحوار جاد حول أسس ومتطلبات التوصل لخيار سياسي، واستراتيجي حقيقي، وليس فقط الاستجابة لبعض المطالب ورفض البعض الآخر، وهو ما يخطط له الجانب القطري بقبول ورفض بعض المطالب للدول المقاطعة، والمؤكد أنها نقلت لجانب الدول الأربع المقاطعة، ولم تلقَ قبولاً حتى الآن برغم التصريحات الإيجابية والجادة والمباشرة من بعض العواصم العربية، التي لا تزال ترفع شعار الحوار، ولم تلجأ بعد لخيارات صفرية -وهي قادرة على هذا- في التعامل مع انفتاح مشهد الأزمة على سيناريوهات عدة خاصة مع الاستفزازات التي تقوم بها قطر استراتيجيا وسياسيا، والتي كان من بينها الدخول في مناورات مع تركيا، والتخطيط لتدريبات مع الجانب الإيراني، والإعلان عن قرب توقيع صفقات سلاح جديدة مع الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا وغيرها من الدول، وهو ما يعني أن هناك أطرافاً عدة تربح من استمرار الأزمة بكل تطوراتها.
ليس فقط الدول التي تخطط قطر لمحاولة تغيير مواقفها وتوظيف قدراتها التمويلية فقط، وإنما هناك شركات ومؤسسات دولية عالمية في مجال الميديا والإعلام، وعشرات من بيوت الخبرة ومراكز الأبحاث وشخصيات دولية تم توظيفها، إضافة لعدد كبير من معاوني ومساعدي السيناتور الأمريكيين، ومجموعات الضغط القطرية في عواصم أوروبية.
وبالتالي فإن التحرك القطري المخطط له يسعى لإحداث تحول هيكلي وجذري في الموقف العربي المقاطع، والعمل على تحقيق مكاسب للموقف القطري، سواء على مستوى الخطاب الإعلامي أو السياسي أو على مستوى كسب أطراف جدد، وتغيير الموقف المساند لموقف الدول الأربع المقاطعة، وهو الهدف التكتيكي للجانب القطري والموضوع في قمة الأهداف الوطنية القطرية في الوقت الراهن، خاصة مع إعادة تقديم قرارات ومواقف تجاه العالم، والتي كان من بينها السماح بدخول عديد من مواطني دول في العالم إلى قطر بدون تأشيرات، وغيرها من القرارات التي ستطرحها قطر كسباً لدول العالم في إطار العزلة التي توجد فيها في الوقت الراهن.
الرابحون كُثر في استمرار الأزمة وتشعيب عناصرها وإطالة أمدها، ولكن يبقى الخاسر الأول والأخير هو الجانب القطري الذي يخرج تدريجياً ومرحلياً من محيطه الخليجي لصالح خيارات إقليمية غير آمنة، وغير مستقرة، والتي ستكون -في حال استمرار العناد السياسي القطري المراوغ- تداعياته مكلفة في المدى الطويل؛ ليس على من يديرون كمسؤولين في قطر، وإنما على الشعب القطري الشقيق الذي سيظل عربياً مهما جرى ويجري من الذين يريدون أن يخرجوه عن إطاره وهويته وانتمائه الخليجي الأصيل.. ولن يستطيعوا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة