قد يظن البعض أن صعود التيارات القومية اليمينية في أوروبا وأمريكا حالة فريدة من نوعها.
والحقيقة أنها نمطٌ تاريخي يأتي في دورات متوالية تتعلق بصيرورة حركة التاريخ الغربي، ودوافعه الذاتية، وإحباطاته، وانتكاساته.. هذه الدورات التاريخية للقوميات المتطرفة تتعلق أيضًا بالإدراك الجمعي للمخاطر الوجودية، التي تهدد الذات الأوروبية، "العنصرية في جوهرها"، والتي تؤمن بـ"سمو العرق الأبيض"، و"المتعصبة" لنموذجها على المستوى الحضاري، من حيث الإيمان بتفرد الحضارة الغربية وقيادتها العالم، وعدم وجود حضارة أخرى يمكن أن تنافسها أو تحل محلها، بل عدم السماح لأن تبزغ نماذج حضارية أخرى من المتوقع أن تنافسها، حتى لو كانت نماذج مسالمة متسامحة.
حين يتم تهديد الذات، وحين تفشل الصيغ الأخرى للوجود والتطور والتقدم، تنطلق الروح العنصرية المتعصبة في النفوس، فيظهر اليمين المتطرف بصورة تلقائية.. حدث هذا مراتٍ كثيرة، فبعد فشل الثورة الفرنسية 1789 في تحقيق أهدافها وشعاراتها في الحرية والمساواة والمؤاخاة، عادت الحركات القومية في أوروبا في القرن التاسع عشر، وبعد الفشل الذريع، الذي مُنيت به التيارات الرومانسية والماركسية والسيريالية في بدايات القرن العشرين، ظهرت التيارات القومية اليمينية الشعبوية، فظهر "هتلر" و"موسوليني"، ومعهما النازية والفاشية، وسيطرا على المشهد الأوروبي في النصف الأول من القرن الماضي.
واليوم بعد أن شعر العالم الغربي بالتهديد من كل صنف ومن كل جهة، تهديد ديموغرافي بانقراض العرق الأبيض على مستوى الأرض وتناقصه من 28٪ من سكان العالم في 1916 إلى 18٪ من سكان العالم في 2016، وتهديد بزحف "الملوّنين والمسلمين" إلى أوروبا وأمريكا بصورة تُفقدهما هويتهما البيضاء، وتهديد بفقدان قيادة العالم علميا وتكنولوجيا أمام تقدم دول شرق آسيا، وتهديد بفقدان الهيمنة الاقتصادية على العالم أمام التنين الاقتصادي الصيني، الذي يهدد أوروبا وأمريكا في عقر دارهما من خلال سلع لا تقبل المنافسة، وتهديد بفقدان السيطرة العسكرية على الأرض لصالح روسيا، التي تسعى للثأر من حلف شمال الأطلسي، الناتو، لدوره في تفكيك الاتحاد السوفييتي سابقا.. كل هذا يوقظ النزعات الشعبوية اليمينية عند "البيض" في أوروبا وأمريكا، وبالتالي يعطي فرصة للأحزاب اليمينية الشعبوية للتقدم وإعادة تشكيل المشهد السياسي بصورة تحقق أهدافها "العنصرية المتعالية المتمركزة حول الذات".
وهنا نحتاج إلى تفكير عميق رصين متزن، وفي الوقت نفسه طويل المدى، وذلك لقراءة المشهد بعيدًا عن السطحية والعبثية والعاطفية والتسرع، التي نراها في تعامل كثير من العقول العربية الفكرية والسياسية مع أزمات مثل أوكرانيا على المستوى الدولي، أو صعود التطرف والعنصرية في العالم الغربي، أمريكا وأوروبا.
نحتاج إلى أن نحلل الأسباب في عمقها التاريخي، وفي أبعادها الفلسفية، وفي دلالاتها السياسية والمستقبلية، ونحتاج إلى أن نقرأ تطوراتِها المستقبلية بواقعية ودون أمنيَّات.
وأخيرًا نحتاج إلى أن نُبلور مواقف وسياسات واقعية بعيدة المدى، تدرك الواقع على ما هو عليه، وتتعامل معه طبقًا لمعطياته.
إن أوروبا وأمريكا يواجهان روسيا، التي تقول إنها "تحارب النازيين الجدد" في أوكرانيا، لذلك سيكون من أهم نتائج هذه الحرب تعظيم مكانة الأفكار "العنصرية والعرقية البيضاء" في أوروبا وأمريكا الشمالية، ولعل المبرر الذي قاد "مقاتلين متطوعين" للذهاب إلى أوكرانيا كان "عنصريا"، مثلما كان مبرر عناصر تنظيم "داعش" الإرهابي للذهاب إلى سوريا والعراق "دينيا".
وفي خضم ذلك، وفي ظروف مشابهة لما كان في ألمانيا بدايات العشرينيات من القرن الماضي، يستيقظ المارد الألماني ليعلن أعظم خطة تسليح في تاريخه، حيث تم تخصيص مائة مليار يورو لتسليح الجيش الألماني.
وهنا يثور السؤال المنطقي:
ألا تخاف أوروبا أن يعود الفكر القومي إلى ألمانيا في ظل هذه النزعة العسكرية الجديدة؟ أم أن القيادات الأوروبية نسخة من القيادات نفسها، التي تسامحت مع ظهور التيارات القومية نفسها في ثلاثينيات القرن العشرين، والتي أدت إلى اشتعال الحرب العالمية الثانية؟
أسئلة تحتاج إلى تفكير عميق وبصيرة سياسية نافذة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة