حالُ الاتحاد الأوروبي بمقوماته السياسية والعسكرية والاقتصادية والأمنية باتت على المحك بعد فرض أزمة أوكرانيا نفسها على عواصم القارة.
هوية الاتحاد -بصفته تكتلا سياسيا ودفاعيا- كانت أمام امتحان حقيقي قبل النزاع الروسي-الأوكراني، لكن ملامحه ارتسمت في أفق القارة بصيغ أكثر وضوحًا، تزامنا مع تطورات الحدث الأوكراني وتفرعاته، وما فرضه من تحديات متعددة المسارات أمام صناع القرار الأوروبيين، الذين وجدوا أنفسهم ودولهم أمام تحدٍّ وجودي يتطلب اختيار واحد من مسارين لا ثالث لهما، فإما التماهي مع استراتيجية الولايات المتحدة والانخراط في صفوفها خلف كييف ضد روسيا انسجاما مع مبادئ حلف شمال الأطلسي من ناحية، وتلبيةً لرغبة واشنطن صاحبة المظلة العسكرية النووية والتقليدية التي تظلل دول الاتحاد الأوروبي من ناحية أخرى، وإما النأي بالنفس عن مجريات النزاع وأطرافه وأهدافه، وهو ما ليس متاحا لدوله، مجتمعين أو متفرقين، بسبب عوامل ذاتية أوروبية، حيث تناقُضُ المصالح وتباين الرؤى والأهداف بين أعضائه، وعوامل متعلقة بغياب السياسة الدفاعية الموحدة وعدم وجود جيش أوروبي كامل التسليح قادرٍ على منح السياسيين خيارات مستقلة في قراراتهم، خاصة حين يتعلق الأمر بمصالح الولايات المتحدة داخل القارة وخارجها، علاوة على الارتباط العضوي لاقتصادات الدول الأوروبية مع واشنطن ومع حلفائها في القارة الآسيوية، كاليابان مثلا.
موضوعيًّا، يبدو أن المسار الأول الذي اختارته دول الاتحاد الأوروبي كان لا بد منه، ومعه كان لا بد من مواجهة الذات بلا أقنعة، فكان إحياء النزعة العسكرية لدى البعض، وتحمّل صعوبات اقتصادية غير مسبوقة لدى الجميع.
رسمت السياسات الأوروبية المستجدة على هامش الأزمة الأوكرانية ببُعديها الداخلي والخارجي علامات استفهام حول مرحلة ما بعد الأزمة.
توقفت الاستفهامات عند عدد من المحددات، منها مصير الاتحاد ككتلة سياسية واقتصادية موحدة، يضاف إليها الاستفهام الأوسع عن طبيعة العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية مستقبلا، وعن السبيل، الذي ستسلكه في ضوء التحولات السياسية والاقتصادية والعسكرية، التي برزت في عموم القارة، وعن تأثير النزاع الروسي-الأوكراني على مستقبل علاقاتهم مع موسكو، بصرف النظر عن مآلاته، علاوة على ظاهرة العسكرة، التي ما فتئت تتوسع في الجغرافيا الأوروبية من خلال سبيلين، الأول رفع مستوى الإنفاق العسكري تسليحًا وإعدادًا للجيوش وتخصيص الصناعات العسكرية بموازنات غير مسبوقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والسبيل الثاني ترجمة هواجس القلق الأمني عبر تخلي بعض دوله عن سياسة الحياد والعودة للاصطفاف ضمن تكتلات عسكرية، كما حصل في السويد وفنلندا بطلب انضمامهما إلى حلف شمال الأطلسي.
انتقلت الولايات المتحدة الأمريكية خلال السنوات الماضية في سياساتها ونهجها ومعالجاتها للقضايا الدولية وإدارتها للأزمات العالمية إلى مرحلة أخرى من مراحل نزعتها كقوة كونية مهيمنة لا تقبل شراكة مع أحد، سواء كان كتلة متجانسة سياسيا واقتصاديا وثقافيا كالاتحاد الأوروبي مثلا، أم كان دولة بعينها تتمتع بمقومات جيوسياسية واقتصادية استثنائية، حتى لو كانت من حلفائها، كألمانيا أو اليابان، وبذلك فهي لا تقبل أيضا المنافسة على قمة العالم.
يطوي النزاع الروسي-الأوكراني أيامه تباعًا برتابة إذا ما قيس بغيره من النزاعات والصراعات والحروب، التي مرت على كثير من البُلدان والشعوب، خاصة حين تكون الدول الكبرى أو بعضها طرفًا مباشرًا أو غير مباشر في إدارته وتغذيته، ولا معطيات تتيح إمكانية البناء عليها، استشرافًا لغد هذا النزاع ومآلاته ومستقبله، ولا اختراق دبلوماسيا يتحقق أو يلوح في الأفق، لا على مستوى بعض القوى الدولية، ولا على صعيد المنظمات الأممية ممثلة بمجلس أمنها أو بالهيئة العامة للأمم المتحدة، ينعش الآمال بقرب انتهاء النزاع بأي شكل ويعيد شيئا من الثقة المفقودة بفاعلية وحيوية تلك المرجعيات.
توسُّعُ الناتو وحماسُ بعض دول أوروبا للتماهي مع السياسة الأمريكية يطرح جدلية جديرة بالتأمل حول ما إذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية تقبل بمنافس أوروبي مستقبلا يتولى على الأقل زمام المبادرة داخل القارة بعيدا عن واشنطن، أو حول ما إذا كان الاتحاد الأوروبي سيجد في الأزمة الأوكرانية سبيلا لترميم بنائه الداخلي، السياسي والعسكري والاقتصادي، ككتلة موحدة تتمتع باستقلالية أكبر على المستويين الأوروبي والعالمي.
ربما يكون من المبكر تحديد اتجاهات البوصلة الأوروبية بشأن اليوم التالي الذي يعقب نهاية النزاع الروسي-الأوكراني، فالأمر محكوم بالتوازنات داخل القارة أولا، وبالوظيفة الحيوية المقبلة، التي ستُبلورها مجريات الأزمة الأوكرانية لدولها ضمن نطاقها الجيوسياسي وخارجه ثانيا، والأمر الثالث متعلق بمدى حاجة دول القارة للمظلة الأمريكية الواسعة مستقبلا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة