صباح الأضحى المبارك، وفيما يشبه استراحة المحارب الروحية من شؤون وشجون السياسة، وبعيدا عن صراعات المشهد الدولي، يعنُّ لنا أن نتوقف قليلا مع شخصية النبي إبراهيم الخليل.
في هذه الشخصية لعلّ بشريتنا الحائرة المضطربة تجد ما يسكّن قلقها، ويعيد تجسير ما انقطع من حبال المودّات، لا سيما في منطقة الشرق الأوسط بنوع خاص.
من أجمل ما قيل عن "إبراهيم" الخليل، ما ورد في كتاب الأديب المصري الكبير عباس محمود العقاد، والمعنون بـ"إبراهيم أبو الأنبياء"، وعنده أن دعوة "الخليل" قد اقترنت بالتوحيد، واقترنت بميزان العدل الإلهي، واقترنت كذلك بإعلاء العبادة إلى ما فوق الطبيعة والجسد البشري.
كانت عبادته "مسألة حية" تمتزج بسرائر النفس، وتنبعث منها فضائل الخير ولا تنزوي عنها زاوية في الكون ولا في ضمير الإنسان.
كان توحيد "إبراهيم" إيمانًا بإله يعلو على ملوك الأرض ونجوم السماء، ويتساوى عنده الخلق جميعهم، لأنه أعلى من كل عالٍ في الأرضين أو في السماوات، ولكنه قريب من كل إنسان.
إله "إبراهيم" لا فرق عنده بين وطن قديم أو وطن جديد، ولا فضل لديه لعشيرة "إبراهيم" على عشيرة ملكي صادق، ملك القدس، ولا على غيرها من عشائر بني آدم، بغير التقوى والإيمان.
ويؤكد "العقاد" أن هذا التوحيد قد رفع مكانة الإنسان في ميزان الخليقة، فليس في الكون إلا خالق ومخلوق، وهو أشرف مخلوق عند الله، بفضيلة واحدة، وهي فضيلة الضمير، الذي يميز بين الخير والشر، وعمل الخير هو وسيلته إلى الله.
ولعل أجمل عبارة حقا وردت في كتاب "العقاد" عن الخليل "إبراهيم" قوله: "سُمي أبا الأنبياء لأنه كان رائد الدعوة النبوية في العالم الإنساني بأسره، وكأنها الرسالة الخاصة من خالق الكون إلى كل مخلوق من بني آدم وحواء".
أما الكاتب الأمريكي، بروس فيلر، والمعروف بكتاباته العديدة عن الإيمان والأسرة، ففي كتابه المعنون بـ"الخليل إبراهيم.. رحلة إلى جوهر الديانات الثلاث"، فيقول: "لقد وددت أن أعرف إبراهيم، أردت أن أفهم تِركته ودعوته، رغبت في أن أكتشف كيف نجح في أن يبقى الأصل المعروف لكل هذا العدد الضخم من الأحفاد، حتى وهم منشغلون ومنهمكون في دفع وإزاحة كل منهم للآخر بعيدًا، مدّعين أنه أبوهم هم فقط. أردت أن أستنتج ما إذا كان مجرد ينبوع يائس للحرب أو وعاءً ممكنًا وواعدًا للمصالحة".
يعبّر "فيلر" عن رؤيته لإبراهيم الخليل بوصفه "الجسر بين البشرية والقداسة"، إنه الأب الذي يترك بَرَكته لأبنائه دون تمييز أو تفريق، ينقل نعمة الله عبر أولاده إلى جموع الأمم.
يتوقف "فيلر" عند جزئية مهمة، وهي أن أبناء "إبراهيم" وعند لحظة بعينها في التاريخ المعاصر، سوف يتوقفون عن الرقص حول النار، استعدادًا لحروب جديدة، يطبعون سيوفهم سككا، ورماحهم مناجل، لا ترفع أمة على أمة سيفا، ولا يتعلمون الحرب فيما بعد.
يرى "فيلر" أن إبراهيم الخليل يؤمن بأن أولاده لا يزالون يطلبون وجه الله. لا يزالون في حاجة إلى الراحة من شيء أعظم منهم، لا يزالون يتشبّثون ببعض الوميض الذي للبشرية، لا يزالون يحلمون بلحظة عندما يقفون جنبا إلى جنب، ويصلّون من أجل أبيهم، ومن أجل التِّركة وميراث السلام بين الأمم، الذي كان أول أمر شرعي من السماء.
صاحب هذا المؤلف يقطع بأن "الخليل" بقي النبْع الأبدي الذي للقيم والمُثُل الإبراهيمية تحت سطح هذا العالم، وأن الناس ظلوا يخبرون أنفسهم ويروون القصص عنه، وكل جيل في لحظات الأفراح أو الأتراح قد نهل من إبراهيم واستخلص منه الدروس، وقد اختار كل جيل "إبراهيم المناسب له".
ما الذي نجده عند الخليل في حاضرات أيامنا؟
أحلى الكلام، يمكننا أن ننهل من النبع القابع بنفسه تحت الأرض ونستخلص شخصًا يتماشى مع عصرنا. يمكن أن نستدعي منقذنا الخاص بنا من الرمال، وبفعلنا لذلك نقرّب أنفسنا إلى الله. يمكننا أن نترك، كإبراهيم، أوطاننا، وأماكن راحتنا وحتى تقاليدنا النظرية، وننطلق إلى مكان غير معروف.
لبضعة آلاف من السنين خلت، مثّل إبراهيم، خليل الرحمن وخليل الإنسان، القيم السامية الصالحة لكل زمان ومكان، إنه رب العائلة الواحدة الساعية للمصالحة والوفاق في زمن الافتراق.
ونصل معا إلى الفيلسوف الأمريكي، كيلي جيمس كلارك، والذي دارت غالبية أعماله في المنطقة الواقعة بين الفلسفة والدين والتاريخ، وكتابه العمدة "أبناء إبراهيم".
تدور روح كتاب "كلارك" حول أسس التسامح والمصالحة، التي استنَّها الخليل، ومنها ينطلق في أطروحته تجاه ما يسمّيه "الأرض المشتركة للحرية والتسامح".
فعلى الرغم من تباين التقاليد الإبراهيمية، فإنها تتشارك بعض الاعتقادات الأساسية التي هي تأسيسية للتسامح واحترام الاعتقادات الأخرى والناس الآخرين.. هذه الاعتقادات يجب أن تحفز التسامح والاحترام تجاه المؤمنين أصحاب الاعتقادات الأخرى.. تدعم أنماط التفاهم المشتركة للعدالة المقدسة، بجانب الحب، التسامح الديني.
يطالب الفيلسوف الأمريكي "كلارك" أتباع الأديان الإبراهيمية في أقصى لحظات قوّتهم، أن يخلقوا حالة من التواضع والرحمة التي تليق بحياة الخليل، عوضا عن التكبر والكراهية والتعصب.
إن اعتقاد إبراهيم هو الاعتقاد بأن إلهًا رحيمًا يتحكم في مسار الحياة الإنسانية، وأن الاستسلام لمشيئة الله هو الطريق الواضح والأكثر إنارة واستنارة للاستقامة الإنسانية.
إنه إبراهيم الخليل، والذي بنسْله تتبارك جميع قبائل الأرض.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة