يشهد العالم تحولاتٍ كبيرةً على وقع الحرب الأوكرانية، فالتداعيات الأمنية والاقتصادية والسياسية لهذه الحرب تركت، وستترك، آثارًا عميقة في علاقات الدول، وتحالفاتها، واصطفافاتها.
وذلك على شكل إعادة رسم الجيوسياسة في مناطق استراتيجية، لأسباب تتعلق بالأمن والطاقة بالدرجة الأولى، وإذا كان الجانب الأمني تجسَّد في الحشد الأمريكي-الأطلسي لضمان عملية ضم كل من السويد وفنلندا لعضوية حلف الشمال الأطلسي "الناتو" بعد عقود من اتباع البلدين ما عُرف بـ"سياسة الحياد الإيجابي"، فإن منطقة الشرق الأوسط-الخليج العربي تكتسب أهمية استراتيجية في التحولات الجارية.. وفي هذا الإطار ينبغي النظر إلى الزيارة المرتقبة للرئيس الأمريكي، جو بايدن، إلى إسرائيل والضفة الغربية والسعودية، من الثالث عشر إلى السادس عشر من الشهر الجاري.
في المبدأ، يمكن القول إن زيارة "بايدن" بمثابة مُراجعة لسياسة إدارته الديمقراطية إزاء منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي، بعد أن روّجت هذه الإدارة لتراجع أهمية وأولوية هذه المنطقة في الاستراتيجية الأمريكية، وحصرت ما سبق في التوصل إلى اتفاق بشأن الملف النووي الإيراني في إطار أولويتها الكبرى، الصين، ولعل تداعيات الحرب الأوكرانية على الاقتصاد الأوروبي والأمريكي، والتضخم الذي نتج عن أزمة الطاقة، وارتفاع الأسعار عالميا، كل ذلك دعا إدارة "بايدن" إلى ما يشبه إعادة اكتشاف الأهمية الجيوستراتيجية للمنطقة، مع تأكيد أن هذا الإدراك لم يأتِ من الفراغ، بل من عاملين أساسيين:
العامل الأول تمثل في السياسة التي اتبعتها الدول العربية الخليجية، عندما رفضت الاصطفاف وراء حرب الطاقة التي انتهجتها الولايات المتحدة ضد روسيا في الحرب الأوكرانية، إذ إن الإرادة التي أبدتها دول الخليج العربي، والالتزام بكميات الإنتاج وفق القرارات والاتفاقيات الدولية في مجال الطاقة، دفعت بالإدارة الأمريكية إلى إعادة عملية تقييم لسياستها تجاه الخليج العربي، فكان قرار "بايدن" بزيارتها، وعقد قمة مع قادتها إلى جانب العراق ومصر والأردن.
العامل الثاني يتمثل في وصول المحادثات الأمريكية-الإيرانية بشأن التوصل إلى اتفاق نووي جديد إلى طريق مسدود، بعد جمود محادثات فيينا، ومن ثمّ فشل محادثات الدوحة، ما يعني أخذ هواجس الدول العربية الخليجية الأمنية بعين الاعتبار.
في المضمون، تحمل زيارة "بايدن" العنوان الاستراتيجي، الذي حملته الإدارات الأمريكية السابقة، وهو الدفع بجهود السلام والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، وفي هذا الإطار ينبغي النظر إلى زيارة "بايدن" إلى كل من إسرائيل والأراضي الفلسطينية، وإذا كان العنوان في إسرائيل يتعلق بتعزيز الالتزام بحمايتها، وأمنها، وازدهارها، من خلال دمجها في الهياكل الاقتصادية والأمنية للمنطقة، فإنه في الأراضي الفلسطينية يأخذ شكل دعم حل الدولتين، وتقديم الدعم المالي والإنساني للفلسطينيين، وفي العنوانين دعم مباشر لاتفاقيات السلام الإبراهيمي، التي تشق مسارها من حاجة المنطقة إلى الاستقرار والازدهار والتكامل بدلا من الصراعات العسكرية والحروب.
دون شك، تُشكّل زيارة "بايدن" إلى المنطقة نقطة تحول مهمة في السياسة الأمريكية تجاهها، على شكل إعادة الاهتمام بقضاياها، وهواجسها الأمنية، بعد تجاهل طويل، وهو تحول يُفترض أن يكون نابعا من قناعة الجانب الأمريكي بأهمية المنطقة للاستراتيجية الأمريكية، لا بمبررات واعتبارات مؤقتة فرضتها تداعيات الحرب الأوكرانية، وعليه تبدو الانعطافة الأمريكية الجديدة تجاه المنطقة أمام امتحان حقيقي، خاصة أن الثقة بالإدارة الديمقراطية اهتزت من قبل دول المنطقة بعد رفع اسم مليشيا الحوثي من قائمة الإرهاب، رغم تهديدها أمن المنطقة وأمن الطاقة العالمي، وذلك لاعتبارات لها علاقة بالإصرار الأمريكي على التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران دون أخذ هواجس المنطقة بعين الاعتبار، كما جرى خلال جولات محادثات فيينا.
والسؤال هنا: هل ستسفر زيارة "بايدن" عن رؤية أمريكية-خليجية واضحة لكيفية ترسيخ التحالف التقليدي على أساس المصالح المشتركة بين الجانبين في المرحلة المقبلة؟
تقول الزيارة/الحدث إن ثمة فرصة حقيقية لذلك، لكن العبرة دوما بالممارسات والنتائج.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة