لو تأمَّلنا الحروب، التي نشأت بين الجماعات البشرية على مَرّ التاريخ، لوجدنا أنها ترتكز على أساس توظيف السلاح والقوة للحصول على القيمة، أو القوة الاقتصادية.
أي مصادر رئيسيَّة مثل المياه والزراعة والتجارة وغيرها، ولرأينا أن توسع الإمبراطوريات لم يكن إلا لهذه الغاية أيضًا، فالاقتصاد بمفهومه الواسع يجمع كل قوى الإنتاج، المتمثلة في الأركان السبعة الأساسية: البشر، والمعرفة، والأرض، والموارد الطبيعية، والطاقة، والمال، والتجارة، ما يعني أنه لا يمكن عزل الاقتصاد عن الحروب، سواء بأهدافها القريبة أو البعيدة.
ويحقق المنتصر في الحروب والصراعات -عادةً- ميزة امتلاك قوة اقتصادية أكبر، ويحرم المهزوم هذه الميزة.
والملاحظ هو أن العملية الحربية تستهلك حجمًا لا بأس به من القدرة الاقتصادية للأطراف المتحاربة، ولو استقرأنا التاريخ الذي يمكن القول إن نصف أحداثه أعمال عسكرية، لوجدنا أن المزايا الاقتصادية التي يحققها المنتصر كانت تُستخدَم باطراد في مواصلة العمل العسكري، بغية الحفاظ على تلك المزايا، أو التوسُّع والسيطرة على أراضٍ جديدة، وهو ما يُؤكد أن الاقتصاد كان ولا يزال يمثل وقود الحركة البشرية وأداة تطورها، ولذا يُعَدّ هدفًا بحد ذاته.
وتطوَّرت أساليب إدارة الحروب على مَرّ العصور، واتجهت بعض أشكالها إلى إيذاء الخصم اقتصاديًّا بمهاجمة قدراته الاقتصادية مباشرةً لحرمانه -جزئيًّا أو كليًّا- ركنًا أو أكثر من أركان الاقتصاد السبعة، وذلك بوسائل اقتصادية أيضًا، وهو ما يمكن الاصطلاح عليه بـ"الحروب الاقتصادية".
وتُشَن الحرب الاقتصادية غالبًا للنيل من قدرات الطرف الآخر الاقتصادية، ويكون ذلك هو الهدف النهائي للحرب.
وبرغم أن بعض الحروب تهدف ظاهريًّا إلى الهيمنة السياسية على دولة ما وإخضاعها لإرادة دولة أخرى، فإن ذلك الهدف الظاهري لا يكون نهائيًّا، بل هو وسيط، لأن الهدف النهائي يكون اقتصاديًّا أيضًا بإدامة تفوق طرف على آخر، وحرمانه وسائلَ القوة والنهوض، ومثال ذلك العقوبات الاقتصادية على فنزويلا، فالهيمنة الاقتصادية تظل هي الوازع الأهم والمحرك للضغوط السياسية والحربية.
وتتمثل بعض وسائل الحروب الاقتصادية في تنفيذ -أو التلويح بتنفيذ- أي من الإجراءات الآتية:
الحظر التجاري، والمقاطعة التجارية، والعقوبات، والتمييز في التعريفات الجمركية، وتجميد الأصول الرأسمالية، ووقف المساعدات، وحظر الاستثمارات وتدفق رؤوس الأموال، ومصادرة الملكية، وتُسمَّى حروبًا اقتصادية معلنة.
أما الحروب الاقتصادية غير المعلَنة، فقد تظهر بمظهر اجتماعي وغير مباشر، مثل: نشر الشائعات، والتجسس، وتجنيد العملاء والمفسدين، وتشويه السمعة الدولية، وإثارة الناس وحضّهم على العنف والاستياء، وتُسمَّى حروبًا "هجينة" حديثة.
ولا بدَّ هنا من الإشارة إلى خصائص الحروب الاقتصادية الجديدة، واستراتيجيات الدفاع والصمود في وجهها:
1. تأسيس تحالف دولي كبير، فدونه لا تُحقِّق المقاطعة أو الحظر أيّ فاعليَّة، ويطول أمَد الحرب أو تفشل.
2. إيجاد ذريعة أو مبرر متفق عليه وفق الأعراف والقوانين الدولية، فعدم توفير الذريعة أو المبرر يُحدِث اختلافًا في المواقف، ويُوجِد مخارج للدول المستهدَفة.
3. القدرة على تحمُّل التبعات، ذلك أن الطرف الذي يشن الحرب غالبًا ما يتأثَّر هو وحلفاؤه سلبًا بتبعات الحرب، أو بضربة ارتدادية تصيب الأطراف كلَّها، وهو ما رأيناه في الحرب الروسية-الأوكرانية، إذ سعى الغرب إلى فرض حظر على المنتجات الروسية، فأدى ذلك إلى حرمانه هو نفسه الغازَ الروسي.
4. التحلي بالنفَس الطويل والصبر، فإذا مُنِع تصدير سلعة استراتيجية -مثل الغاز الطبيعي- إلى دولة ما، فهل تستطيع تلك الدولة شراء سلعة بديلة بسعر أعلى؟ وإلى متى تصمد؟
5. امتلاك القدرة على توسيع الحرب أيًّا كانت النتائج، وذلك إذا اكتشف الطرف الذي يشن الحرب حالات اختراق لقراراته، مثل ما حدث مع شركات تستورد أجهزة صينية، فأدرجتها الولايات المتحدة الأمريكية في القائمة السوداء.
ونستنتج مما سبق أن الدول الواقعة تحت وطأة الحروب الاقتصادية يجب عليها السعي إلى كسر حلقات التحالف ضدها، وإيجاد بدائل في السوقَيْن المعلَنة وغير المعلَنة.
ويبقى العنصر الأهم هو الاكتفاء الذاتي من الطاقة والمياه والأغذية والأدوية، ووجود قدرات تصنيعية متطورة.. ما يجعل الحروب الاقتصادية عبثية وغير قادرة على تحقيق أهدافها.
نقلا عن "مفكرو الإمارات"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة