بينما يكافح الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي "البنك المركزي" وبنوك مركزية أخرى في الاقتصادات الحرة لكبح جماح التضخم، لا يبدو أن بنك اليابان المركزي في عَجَلة من أمره.
ويعاني الاقتصاد الياباني عمومًا حالة انكماش منذ تسعينيات القرن الماضي.
والانكماش صورة معكوسة للتضخم، فبدلًا من أن تزيد أسعار السلع والخدمات والأصول بمرور الوقت، تنخفض بشكل أساسي، فتزيد القوة الشرائية لدى اليابانيين.
وقبل أن نتمنى ذلك لنا، علينا أن نعرف أن الانكماش مُعوّق للاقتصاد، مثله مثل التضخم المتسارع، ويُبطن مشكلةً أعمق، ذلك أنه علامة على ضعف الاقتصاد، ويخشاه الاقتصاديون مثلما يخشون التضخم المرتفع، لأن انخفاض الأسعار يُبطئ النشاط الاقتصادي، ويخفض الأجور، ويقلل توافر الوظائف، ويؤدي إلى تسريح العمال، ولهذا كله ظل بنك اليابان المركزي يحاول رفع التضخم في البلاد إلى 2 في المئة.
ومع أن ارتفاع الأسعار يُحدّد للشركات والمستثمرين أماكن الطلب الأقوى، وأين ينبغي أن تتجه استثماراتهم، ويساعد العمال على التدفق إلى القطاعات الصاعدة، فيكسبون مهارات جديدة ورواتب أعلى، فإن هذه الآلية لا تعمل في اليابان، وتؤثر في تنافسية البلاد.
ولا بدَّ من الإشارة هنا إلى أن الاقتصاد الياباني نما في نهاية عام 2021 بنسبة 1.7 في المئة فقط، مقارنةً بالاقتصاد الأمريكي الذي نما بنسبة 5.7 في المئة.
والآن لِنُجِب عن التساؤل الذي يحمله عنوان المقال: "لماذا لا يوجد تضخم في اليابان؟".
عكف كثير من الاقتصاديين على محاولة فهم هذه الظاهرة، وبرغم إعداد جداول ورسوم بيانية مقارنة، واستخدام نماذج معقدة، فإن الإجابة تكمن في أن ذلك حالة ثقافية واجتماعية وسيكولوجية خاصة بالشعب الياباني، فالاقتصاد الياباني شهد انتعاشًا وازدهارًا كبيرَين بعد الحرب العالمية الثانية، وحدثت في اليابان طفرات عمرانية وصناعية وتكنولوجية أحدثت ارتفاعًا حادًّا في التضخم، إلى أن صُدم اليابانيون بأزمة حظر النفط في عام 1973.
ولأن اليابان تستورد كل المواد الخام تقريبًا، فإن تلك الأزمة ضاعفت الأسعار أضعافًا مخيفة آنذاك، وأصبح المستهلك الياباني أكثر دفاعيَّة بشأن حماية عائلته، ويرفض إنفاق كثير من المال، ولو على ضروريات الحياة اليومية.
وفي المقابل تُوجَد ثقافة عمل في الولايات المتحدة الأمريكية يمكن للشركات فيها تمرير التكاليف العُليا في المواد الخام والزيادات في الأجور إلى المبيعات والمستهلكين.. وهذا لا يحدث في اليابان نظرًا إلى اختلاف الثقافة فيها عن الولايات المتحدة، إذ لا تزيد الشركات اليابانية الأجور ولو نقص عدد العمال، وتعوّض ذلك بما يشبه الضمان الوظيفي المستمر للعامل، ولا تُحمّل المستهلكين جزءًا من التكاليف المستجدة، لأنها تخشى تقلّص حصتها السوقية، فالعائلات اليابانية حساسة جدًّا للأسعار، ولذا تحاول معظم الشركات تأجيل رفع الأسعار قدر الإمكان، أو فرض جزء منها وتأخير البقية.
وقد تلجأ شركات أخرى أحيانًا إلى تصغير أحجام عبوات بعض المنتجات بدل رفع أسعارها، وعندما تُضطر إلى رفع الأسعار تتقدم بالاعتذار الشديد إلى زبائنها، وهذا ما يفسر النمو البطيء للأسعار في اليابان، وعدم وجود تضخم كبير فيها، برغم تسجيل التضخم الأساسي لأسعار المستهلكين، أخيرًا، مستوى قياسيًّا قارب هدف البنك المركزي البالغ 2 في المئة.
نقلا عن "مفكرو الإمارات"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة