رئيس وزراء بريطانيا، بوريس جونسون، "المتخلي عن زعامة حزب المحافظين"، كان أكثر مسؤول غربي شراسة في الخصومة مع روسيا، وتأييدا لأوكرانيا.
وشراسته هذه كانت أحيانا لا تعجب بعض قادة أوروبا، وأحيانا أخرى لا تُؤخذ على محمل الجد من قِبَلهم.. أما السبب في الحالتين فهو الوضع المضطرب الذي عاشه "جونسون" داخليا بعد سلسلة المطبات التي واجهها.
حاول رئيس الحكومة البريطانية "المؤقت" استغلال الأزمة الأوكرانية لمعالجة مشكلات داخلية يعيشها بعد "فضائح" أدت إلى استقالة العشرات في حكومته، بين وزراء ومسؤولين.
ويعتقد قادة في أوروبا أنه كلما كانت حلقات الضغط تشتد على "جونسون" في الداخل، كان يصعّد من خطابه "المعارض" للروس، ويتخذ قراراتٍ أكثر لدعم كييف.
التصعيد ضد روسيا، والذي هرب إليه "جونسون"، جلب الضرر لدول الاتحاد الأوروبي سياسيا وعسكريا.. ربما لم تتجلَّ أبشعُ صوره بعد، ولكن المُضي في حرب أوكرانيا على الطريقة التي رغب فيها رئيس وزراء بريطانيا سيستدعي الأسوأ الذي تخشاه دول التكتل، والذي لن يؤثر كثيرًا في المملكة المتحدة بعد انفصال لندن وبروكسل نهاية 2020.
وذاك الأسوأ ينطوي على جوانب اقتصادية أكثر من أي شيء آخر. وطالما كان الاقتصاد عامل حسم في سياسات دول الاتحاد الأوروبي الداخلية والخارجية. فيما دفع "جونسون" جوار أوكرانيا وحاضنتها في القارة العجوز للإنفاق في "مواجهة" الروس، كما أجبرهم بشكل غير مباشر على المُضي نحو القطيعة مع موسكو في مجالات الطاقة.
أجندة "جونسون" نحو أوكرانيا تتماهى مع خطط الولايات المتحدة.. وهذا ضغط على الأوروبيين وزاد من "نقمتهم" على "جونسون".. فدائما كان تحالف لندن وواشنطن أكثر قوة من علاقة لندن وبروكسل، حتى عندما كانت تجمعهما عضوية الاتحاد الأوروبي، ولكن هذا الأمر كان يمر كسحابات صيف عابرة لا تدوم طويلا.
لقد حوصِر "جونسون" داخليا حتى الخنق، واتسعت دائرة المعارضين له في حزبه حتى اضطر إلى "التخلي عن أفضل وظيفة في العالم"، بحسب وصفه في خطاب "التخلي" عن منصبه كرئيس لحزب المحافظين أمس.
ها قد سقطت كل دفاعات "جونسون"، التي شيّدها في مواجهة المعارضين لاستمرار حكومته حتى الانتخابات البرلمانية في عام 2024.
اختباء "جونسون" خلف الحرب الأوكرانية وما جرّته على العالم من مشكلات اقتصادية ليس ادعاءً أو اعتقادا من القادة الأوروبيين.. فما صرح به خلال المساءلة البرلمانية الأسبوعية الأخيرة فضح الأمر، لأن "الحكومات التي تواجه حروبا مثل حرب أوكرانيا، وأزمات مثل التضخم وغلاء الأسعار، يجب أن تبقى"، وفقا لرأيه.
بشكل أو بآخر نجحت خطة "جونسون" في الاختباء خلف الحرب الأوكرانية لفترة، لكن هذا النجاح لم يدُم.. فالمشكلة كانت تكمن في أن رئيس الوزراء البريطاني لم يستطع أن يوقف مسلسل الفضائح والأزمات الداخلية.. وفشله هذا أقلق حلفاءه ومن كانوا يؤيدون بقاءه على رأس السلطة، اقتناعًا منهم بأن تغييره قد يكون مكلفا.
إن تبديل القيادات في زمن الحروب مرهق لمؤسسات الدولة وأرباب السياسة، سواء في بريطانيا أو غيرها.. فالقادم الجديد يحتاج إلى وقت ليس بقصير لمواكبة كل ما نُفذ وخُطط له في السياستين الداخلية والخارجية.. والوقت في حرب مثل التي يخوضها الغرب ضد روسيا اليوم ثمين جدا، وربما أثمن من الديمقراطية.
لقد ارتفع منسوب قلق القادة الأوروبيين مؤخرا من مستقبل "جونسون" السياسي.. فهم من جهة لم يكونوا يستطيعون المضي في خطط واتفاقات مع رئيس حكومة قد يُقال أو يستقيل في أي لحظة، ومن جهة أخرى لا يمكنهم ثنْي "جونسون" عن الاستمرار في استغلال حرب أوكرانيا للهرب من مشكلاته، وبالتالي توريطهم في مزيد من القرارات والإجراءات، التي تنعكس عليهم وعلى مجتمعاتهم سلبًا.
لم يمهل الوقت "جونسون" أكثر، ولم يكن أمام قادة الاتحاد الأوروبي إلا خِيارٌ يتيمٌ يتمثل في تجاهل "جونسون" إلى حين اتضاح صورة مستقبله السياسي.. وها قد اتضح مستقبله بخروجه من المعادلة السياسية في بريطانيا، وهذا بدوره يعني الانتظار وتعليق أشكال التعاون الأوروبي الكامل في الملف الأوكراني أو غيره.
الإعلام البريطاني مؤخرا كان يصف "جونسون" بـ"الخنزير المليء بالشحوم"، تعبيرا عن عدم قدرته على الخروج من الأزمات.. وهذا حقيقي إلى حد كبير بالنظر إلى كم المشكلات التي واجهها ونجا منها منذ عام على الأقل.. ناهيك بالحرب المهولة التي شنّتها وسائل إعلام محلية كبرى عليه لإجباره على الاستقالة والتنحي عن قيادة المملكة المتحدة.
الفضيحة المتعلقة بالقيادي السابق في حزب المحافظين، كريس بينشر، والتي فجرت مؤخرا سيلا من استقالات الوزراء والمسؤولين في حكومة "جونسون"، تقول ببساطة إن سياسة دفع المشكلات وتأجيل معالجتها لم تعد مُجدية.. فالرهان على الزمن لا يكفي، والرهان على الحرب الأوكرانية كشمّاعة تحتمل تعليق كل الخطايا والأخطاء، هو أيضا لا يكفي.. هذا لسان حال "جونسون" اليوم، ولعله أدرك ذلك في وقت متأخر.
لقد حجز "جونسون" مكانه في ذاكرة البريطانيين لعقود طويلة، أما الأوروبيون فلن ينسَوا أن هذا الرجل قد زاد حرب أوكرانيا حطَبًا كي يختبئ خلف دخانها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة