لن تسمح معطيات وركائز السياسة الروسية، بأي عبث تركي محتمل، وستضع خطوطا حمراء بالفعل لأي تجاوزات تركية.
يسعى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لتسجيل حضور مباشر في الأزمة الراهنة بين أرمينيا وأذربيجان ومنذ اللحظة الأولى لبداية الأزمة تدخل الجانب التركي لإذكاء نار الأزمة وإشعال فتيل الحرب بينهما، وهو ما يشير إلى أن الجانب التركي – وبصرف النظر عن تشعب هذه الأزمة وتعدد أطرافها – سيعمل على إطالة الأزمة وتوظيف أبعادها على كافة المستويا،ت خاصة وأن الجانب التركي يريد أن يوجه رسائل للأطراف الدولية بحضوره في أغلب الصراعات الإقليمية والدولية واستثمار مخرجاتها لصالحه، مع العمل على تحقيق مكاسب على المديين القصير / طويل الأجل، وهو ما جرى سابقا في الشرق الأوسط حيث التدخل التركي في سوريا، وما زال قائما في إطار استراتيجية شد الأطراف، والتأكيد للمصالح العليا للدولة التركية في الملف الكردي بالأساس، وفي التسوية المقبلة والأخيرة في سوريا، والتي ستكون تسوية مؤقتة ومرحلية وناقصة في كل الأحوال بصرف النظر عن الوضع الراهن، ومسعاه لتأكيد حضوره في الحفاظ على "سوريا المفيدة" كما يسميها، كما جرى في ليبيا حيث لا تزال السياسة التركية تبحث عن وجود دائم ومقيم، والتخطيط لإدامة الصراع الراهن، ويبحث الجانب التركي عن تأكيد مخططه عبر إنشاء نقاط ارتكاز استراتيجية مقيمة في إطار تأكيد الوجود الإقليمي في أي تطور مفصلي في الأزمة الليبية.
يتكرر المشهد في إطار مناكفات سياسية واستراتيجية في منطقة شرق المتوسط حيث الصراعات الكبرى على الغاز، ومسعى الجانب التركي لاستحضار دور مستقبلي في مواجهة ما يجري في الإقليم من تطورات، أهمها تحويل منتدى غاز المتوسط إلى منظمة إقليمية لدول المنطقة، وهو ما سيؤسس بالفعل لاستراتيجية متكاملة تشمل تحقيق مصالح دولها سواء في البحث أو التنقيب، أو من خلال اتفاقيات النقل اللوجستي والتصدير والتسييل، مما سيؤسس بالفعل لشراكات حقيقية راسخة في ظل الاتفاق على تدشين خطوط الغاز في المنطقة ومنها أوروبا، وبالتالي ستحاول السياسة التركية تأكيد دورها من خلال تصعيد موقفها من آن لآخر تجاه اليونان وقبرص مع نقل رسائل لأوروبا، بأن منظومة أية عقوبات لن تتم ولن تتأثر بها تركيا فعليا، وهو ما برز في خطاب الرئيس التركي مؤخرا قبل اجتماعات الاتحاد الأوروبي مؤخرا، وقبل الرسائل التي نقلتها فرنسا وألمانيا .
في إطار كل ما يجري في الشرق الأوسط، وشرق المتوسط تنتقل تركيا إلى القوقاز، ومن مناكفة دول الاتحاد الأوروبي في مجمل تحركاته إلى مناكفة روسيا، حيث ستستمر روسيا على مقربة ما يجري من تطورات هيكلية، إذ تعتبر منطقة القوقاز وجمهوريات آسيا الوسطى منطقة نفوذ سياسي وتاريخي وجيواستراتيجي لروسيا بصرف عن تفكك الاتحاد السوفييتي، ومنح هذه الدول والوحدات السياسية الاستقلال منذ سنوات طويلة، وبالتالي لن تسمح معطيات وركائز السياسة الروسية، بأي عبث تركي محتمل، وستضع خطوطا حمراء بالفعل لأية تجاوزات تركية بصرف النظر عن الخطاب الإعلامي والسياسي لأنقرة، وهي تدرك جيدا أن روسيا لن تقف في موقف المتفرج، فلديها حضور عسكري كبير في المنطقة، ولديها علاقات استراتيجية كبيرة وممتدة ولن تقبل بالسياسة التركية التدخلية التي يريد أن يثبتها الرئيس التركي في إطار مسرح عمليات جديد يوظف فعليا لحساباته السياسية والاستراتيجية، وينقل رسالة لروسيا وللدول الأوروبية ولدول الإقليم في الشرق الأوسط بالقدرة على التواجد بالقرب من كافة الأزمات الراهنة، الدول حيث تسعى سياسة أردوغان لتأكيد فكر العثمانية الجديدة، والنموذج الأناضولي القادر على حماية "الإرث التاريخي للإمبرطورية العثمانية" في بقاع العالم، في محاولة لأردوغان لكسب حضور شعبي في مواجهة المعارضة التركية الصاعدة ودورها بقوة في البرلمان التركي، وفي ظل صعود لافت لأحمد داوود أوغلو وعلي باباجان ( قيادات سابقة في حزب العدالة والتنمية ).
لن تتوقف السياسة التركية عن خياراتها في القوقاز وما يجاورها، فالتدخلات التركية لعب بالنار، واستدعاء لما جرى ويجري في ليبيا، حيث تم انتهاج هذا الأسلوب بصورة مرحلية لدعم معسكر السراج، ولكن الأمر مختلف في منطقة القوقاز، حيث لن تقبل روسيا باستمرار المخطط التركي لتوسيع نطاق الأزمة وتدويلها، خاصة وأن المواجهات السابقة كانت مكلفة بالفعل، وسقط فيها آلآف القتلى لولا تدخل القوى الدولية ودخول الولايات المتحدة على الخط، مدعومة بموقف أوروبي قوي، وحزم من الأمم المتحدة .
تدرك السياسة التركية أن ملف النزاع بين أذربيجان وأرمينيا ليس فقط على إقليم كاراباخ فقط، بل هو صراع من نوع خاص له أبعاده السياسية والتاريخية والاستراتيجية حيث تتداخل الاثنيات والعرقيات في مناطق أخرى في الإقليم بأكمله، مما قد يفجر منطقة القوقاز بأكملها، ويؤدي لتوتر وصراعات ثنائية تشمل دولا أخرى، كما قد يتمدد ليكون صراعا جماعيا في القلب منه الطرف الروسي المركزي، إلا أن سياسة أردوغان لن تنجح في تحقيق أهدافها أو مصالحها كما تتصور، خاصة وأن الصراعات المعقدة في إقليم القوقاز لن تمنح الفرصة لتركيا، فهناك العديد من القيود والإشكاليات التي ستعلن عن نفسها في الفترة المقبلة، وستضع الجانب التركي في دائرته، ولن تمنحه فرصة لمزيد من التدخلات في مسارح عمليات جديدة .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة