الحقيقة أن الشعارات الإنسانية الدولية هي قفازات حريرية لمصالح وحوش؛ خشنة أياديهم، وبارزة أنيابهم، وجاحظة عيونهم.
سبع سنين وآلة القتل والتشريد تمرح في سوريا، وأربع سنين واليمن يعاني من مليشيات طائفية مجرمة، تعيث في الأرض فساداً مندفعة بأوهام خرافية مريضة، والعالم لا يكترث إلا بما يحفظ ماء الوجه، ويحافظ على الصورة العامة للعالم المتحضر، من خلال بيانات الإدانة والشجب والاستنكار، وفي الوقت نفسه تتدفق الأسلحة على المليشيات في سوريا واليمن من كل حدب وصوب، وكأنها تنزل من السماء، ولا تمر بممرات دولية بحرية وبرية وجوية، والجميع يعرف ما فيها ومن فيها.
وحينما أوشكت الدولة اليمنية على تحقيق نصر نهائي على المليشيات العميلة لإيران بطردها من مدينة الحُديدة ومينائها تحرك العالم، واستيقظ ضميره الإنساني الغائب أو المستتر، وأدرك أهمية الحفاظ على المدنيين الذين لم يكن لهم قيمة ولا وزن في صنعاء ولا في تعز ولا غيرهما، وفي المقابل حين أوشكت الحرب في سوريا على الانتهاء بسيطرة الدولة السورية على إدلب وتحريرها من القاعدة وداعش وجميع الجماعات التي جاءت من مختلف بقاع العالم عبر تركيا، استيقظ أيضا الضمير العالمي الذي ظل مغمض العينين تجاه كل الجرائم التي ارتكبها نظام بشار ومعه المليشيات الطائفية، وارتكبتها الجماعات الإجرامية التي حاولت هدم الدولة السورية لحساب تركيا وقطر، وبين إيران وتركيا وقطر تم تدمير سوريا وتشريد نصف أهلها وقتل مئات الآلاف منهم، لم يهتم العالم بحياة المدنيين في الغوطة الشرقية ولا في حلب وحمص قبلهما أو درعا بعدهما، فلماذا هذه اليقظة للضمير الإنساني في إدلب وفي الحديدة بالذات وقبلها كان نائما باسطا ذراعيه مع أهل الكهف؟
نهاية الحرب في سوريا واليمن يعني نهاية مشروع الفوضى الخلاقة، ونهاية كل الاستثمارات الدولية في الربيع العربي، ونهاية الدور الخبيث لحكومة قطر، ونهاية دور كل العملاء من تنظيم الإخوان إلى كل الجماعات المنبثقة عنه
الحقيقة أن الشعارات الإنسانية الدولية هي قفازات حريرية لمصالح وحوش؛ خشنة أياديهم وبارزة أنيابهم وجاحظة عيونهم، يلتهمون فرائسهم بلا شفقة ولا رحمة، وحين يقتربون من الفريسة يضعون القفازات الإنسانية، ويلبسون أقنعة حقوق الإنسان، ويستخدمون كل المؤسسات الدولية من الأمم المتحدة إلى أصغر منظمة لحقوق الإنسان لتحقيق مصالحهم.. وهاكم الدليل:
أولا: إن انتصار التحالف الداعم للدولة اليمنية في الحُديدة ينهي هذه الحرب، ويجهض المشروع الإيراني في جزيرة العرب، وهذا يهدد مصالح كثيرة منها مصالح المركب الصناعي العسكري الذي يغذي الحروب، ويعمل على استدامتها، حتى تظل عجلة الصناعات العسكرية تدور، وتظل التدفقات المالية تأتي لتلك الكيانات المسيطرة على دوائر صنع القرار في دول عديدة.
ثانيا: إن انتصار الدولة اليمنية في الحُديدة يعني انتهاء دور إيران المطلوب من العالم الغربي، وهو أن تظل قوة عدم استقرار في المنطقة العربية، لأن هزيمة عملاء إيران في اليمن سيؤدي إلى تراجع الدور الإيراني في العراق وسوريا ولبنان، وانتهاء الطموح الإيراني في البحرين.
ثالثا: إن انتصار التحالف العربي في اليمن يعني أن هناك قوة إقليمية استطاعت أن تعيد ترتيب منطقتها بعيداً عن تدخل القوى الدولية الكبرى، وهذا سيكون سابقة خطيرة، تنزع الشرعية عن القوى الغربية بصفتها الوصي الوحيد لرعاية شؤون العالم.
رابعا: إن سيطرة الدولة السورية على إدلب سيكون إعلاناً لعودة روسيا كقوة دولية كبرى، بما يعني عودة صورة الاتحاد السوفيتي، ولذلك لا ينبغي أن تحصل روسياً على طلقة أخيرة تعلن بها النصر، ولكن ينبغي أن تكون النهاية في جنيف، حتى تظل روسيا قوة من الدرجة الثانية أو الثالثة مهما استثمرت في سوريا.
خامساً: إن انتهاء وجود الجماعات الإرهابية في سوريا يعني ضياع استثمارات ضخمة أسهمت فيها العديد من الدول الغربية وتركيا وإيران، لأن الجميع يحتاج إلى وجود هذه الجماعات الإرهابية لمهام وأدوار مستقبلية، تركيا تريدهم للتمهيد لعودة الخلافة من خلال إضعاف الدول الواقعة جنوبها خصوصا العراق وسوريا، حتى تتآكل الدولة الوطنية هناك، ويكون طريق السلطان أردوغان ممهداً، وإيران تريدهم كذريعة ومبرر للتنكيل بالمجتمعات السنية، وتفكيكها وإضعافها تمهيدا لعودة الخلافة الفاطمية، وإعداد المسرح لعودة الإمام الغائب، أو سيطرة الولي الفقيه النائب عن صاحب الزمان، وإعادة إحياء الإمبراطورية الفارسية في مواجهة الدولة العثمانية؛ حيث لا يكون بينهم عرب وإنما غساسنة ومناذرة.
سادساً: العالم الغربي يخشى من عودة الكائنات المتوحشة التي تخلص منها من خلال شحنها وتصديرها إلى سورية، فكل المجرمين الذين التحقوا بداعش أو بالقاعدة أو بأي تنظيم إجرامي آخر جاءوا من أوروبا تحت سمع وبصر أجهزة المخابرات فيها، وتم ذلك لتحقيق هدف واضح ونبيل بالنسبة لهم، وهو تطهير أوروبا من أمراض المسلمين، وإرسال هؤلاء المرضى إلى ديارهم لتفريغ كل شحنات الهوس الديني هناك.. وبانتهاء الوضع في إدلب سيعود هؤلاء إلى ديارهم، وهذا ما تخشاه أوروبا.
سابعاً: نهاية الحرب في سوريا واليمن يعني نهاية مشروع الفوضى الخلاقة، ونهاية كل الاستثمارات الدولية في الربيع العربي، ونهاية الدور الخبيث لحكومة قطر، ونهاية دور كل العملاء من تنظيم الإخوان إلى كل الجماعات المنبثقة عنه.
إن التحليل الحضاري بعيد المدى يقول لنا إن الشعار الإنساني والحقوقي الذي ترفعه منظمات ومؤسسات ودول في العالم الغربي هو لتحقيق مصالحها، وبالتأكيد مصالحها ليست متطابقة مع مصالحنا، بل أحيانا تكون متناقضة، فما يحقق مصالحها يدمر مجتمعاتنا.. وفي هذا السياق جاءت الحمى الدولية والالتهابات الإنسانية التي أصابات جميع الفاعلين الدوليين سواء أكانوا دولاً أو منظمات بين الدول وفوقها أو دون الدول وتحتها.. جميعهم أصابتهم هذه الجمرة الخبيثة عندما ظهر جلياً نهاية عبث مليشيا الحوثي الإرهابية في اليمن التي تغذيها إيران، ونهاية جرائم سوريا التي شارك فيها الجميع من إيران ومليشياتها إلى تركيا ومليشياتها، وقطر التي تمول وتدعم الاثنين، والغرب الذي وفر الغطاء بالصمت أو بالكلام.. الجميع يسعى إلى تحقيق مصالحه بغطاء إنساني، فلا ينبغي أن ندمر مجتمعاتنا بخدعة إنسانية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة