زايد لا يُستحضَر في الذكرى، بل يعيش في وجدان هذا الوطن.
في الثامن عشر من يوليو، تُطلّ علينا ذكرى ليست كبقيّة الأيام.. إنها ذكرى عهد الاتحاد؛ اليوم الذي بدأت فيه رحلة وطنٍ لم يكن قد وُلد بعد، لكنه كان حيًّا في قلب أبونا زايد.
لم يكن رجلًا اعتياديًّا، بل استثنائيًّا، ببصرٍ نافذٍ وبصيرةٍ عانقت السماء.
قال حين تحمّل المسؤولية: حين تولّيت المسؤولية، لم أفكّر في الراحة، بل فكّرت في حمل الأمانة.
غرس بذرة فكرة لا تُبنى بالحديد، بل بالقلوب والإرادات.
الاتحاد لم يكن قرارًا سياسيًّا فقط، بل نداءً أخلاقيًّا، استجاب له رجال صدقوا، فأصبحت الشواطئ وطنًا، وامتدّت في عروق الصحراء حضارة.
قال زايد بوضوح: الاتحاد لم يأتِ من فراغ، بل من تفكير عميق، وإيمان صادق، وتخطيط مدروس.
وفي كل يوم هو عيد وطني نحتفي فيه بالوطن وإنجازاته… أما في ذكرى عهد الاتحاد، فنعود إلى البدايات: إلى الخطوة الأولى، والسؤال الأصعب، والرجل الذي نظر في المدى، وعانق الأفق لأنه يرى الإمارات… رجلٌ حوّل المجهول إلى يقين، والإمكان إلى واقع.
لقد كان زايد يرى في الاتحاد مصيرًا لا خيارًا، ولذلك قال: الاتحاد هو مصيرنا، ومستقبلنا، وحياتنا. ولا مكان بيننا لمن يريد الفرقة والانقسام.
في هذا اليوم، لا نحتفل بتاريخ، بل نُجدّد عهدًا: أن نكون أوفياء لهذه الأرض، كما أوفى زايد، وأن نردّ الجميل، كما أوصى، وأن نتذكّر دائمًا أن حبّ الوطن ليس أنشودةً تُردَّد، بل سلوكٌ يُمارس، كما علّمنا: حبّ الوطن فعل، لا قول… وإخلاص لا يُشترط بوقت أو مناسبة.
زايد لم يَبْنِ دولة فقط، بل ترك عهدًا مفتوحًا لكل جيل: أن يكون هذا الوطن أمانةً في الأعناق، ووصيّةً في الضمير.
زايد لم يكن خطيبًا يُجيد الكلمات فقط، بل كان رجلًا يُنجز ما يقول.
زايد لم يُنجز ما هو مطلوب، بل فكّر بما هو ممكن.
لم يعِدنا بعصر ذهبي من بعيد، بل دخله قبلنا، ليمهّد لنا الطريق.
وكان يؤمن أن المجد لا يصنعه المال، بل الرجال. قال عن بناء الإنسان: بناء الإنسان أقوى من بناء العمارات الشاهقة.
فبدأ من المدارس لا الأبراج، ومن الكرامة لا الواجهة،
وغرس في شعبه الإيمان بأن الوطن لا يُقاس بمساحته، بل بقيمة أبنائه.
فردّ الجميل حتى الرمق الأخير، وعلّمنا أن نكون امتدادًا لعهده.
زايد قال… حين لم يكن هناك إلا الأمل،
وزايد فعل… حين ظنّ البعض أن الحلم مستحيل،
وزايد أوفى… حين صار الاتحاد حقيقة، وصار الإنسان ثروة، وصارت الإمارات وطنًا يُشبه قلبه الكبير.
في ذكرى عهد الاتحاد، لا نكتفي بالذِكرى، بل نُعيد الوعد الذي قطعه زايد: أن نقول بالنية، ونفعل بالإرادة، ونفي بالحب.
زايد… ومن مثل زايد؟
رجلٌ واحد، بحلمٍ كبير، وقلبٍ يسع وطنًا، وعقلٍ آمن بالإنسان قبل العُمران.
مع إخوته من القادة، أمسك بخيوط الحلم، وغزل منها معجزة…
فكرةٌ وُلدت في فؤاده، ثم أبصرت النور في الثاني من ديسمبر 1971،
يوم أن نطق التاريخ لأوّل مرة باسم: دولة الإمارات العربية المتحدة.
ربما لا ندرك، ونحن في نعيم الحصاد، حجم التحدي الذي بدأ به الزرع…
وعلينا أن لا ننسى أن الأمانة التي نعيش تحت ظلّها اليوم، قد حملها الآباء المؤسسون.
في ذكرى عهد الاتحاد، علينا أن نتذكّر: أن الاتحاد لم يكن صدفة، بل عهد رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه… فوفوا.
زايد لا يُختزل في لقب، ولا يُلخّص في سطر… زايد يُدرَّس.
زايد القائد،
زايد المؤسس،
زايد السموّ الإنساني حين يتجلّى في هيئة رجل.
هو القصيدة التي لا تنتهي من النبل،
والمعلّم الذي علّمنا أن الأوطان تُبنى بالعزائم.
هو الحلم حين تشكّل واقعًا،
وهو الواقع حين ارتقى إلى مستوى الحلم.
وقبل أن يكون كل شيء… كان الأب.
الأب الذي احتضن وطنًا، وباركه بإخلاصه، وغرس فينا أن الكرامة هي جوهر البناء، وأن الإنسان هو الثروة الأولى.
لكل اسمٍ حكاية… وحكاية زايد تبدأ من أمٍّ عرفت كيف تُسمّي.
حين وُلد زايد عام 1918، اختارت له والدته، سلامة بنت بطي القبيسي، اسمًا ليس كغيره من الأسماء.
سمّته زايد تيمنًا بوالد زوجها، زايد الأول، الذي نقش حضوره في ذاكرة أبوظبي.
كان الاسم تفاؤلًا، ووصيّة مبكرة، وغرسًا في تربة المجد.
لكن زايد، حين كبر، لم يكن يحب الاسم كثيرًا…
قيل إنه كان يرى فيه مسؤوليةً كبرى، وإرثًا لا يُحتمل، وقال يومًا: الاسم كبير عليّ.
لم يكن ذلك نقصًا في فخره، بل زيادة في تواضعه،
فزايد هو من يزيد الاسم شرفًا وتكريمًا.
ورغم تردّده تجاه الاسم، فقد أعطاه الحياة كلّها.
زايد له من اسمه كلّ النصيب،
فقد صار والدنا زايد امتدادًا ومسيرةً إنسانيةً خالدة.
اسمٌ بدأ كإرث، ثم مضى كمنهج حياة… واكتمل كحكاية وطن.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة