الانسداد السياسي اللبناني.. معادلةٌ صفرية تحت مراقبة الخارج
في حين تستمر الانتفاضة الشعبية في لبنان تجاه منظومات الفساد وصل الخلاف حول التكليف الحكومي إلى معادلة صعبة بين الأطراف السياسية
وصلت الأزمة السياسية اللبنانية التي تتحرك منذ 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019 على صفيح الاعتراض الشعبي على أداء القوى الحاكمة إلى طريقٍ مسدود في ظل تعارض رهانات القوى الفاعلة وحساباتها، وأيضاً بسبب احترامها موازين القوى القائمة وخشيتها من المس بها، تحت طائلة استدراج تداعيات سلبية لا طاقة لها به.
ودخل الوضع السياسي في لبنان في معادلة صفرية حتى الساعة، في حين اتجه حراك القوى الشعبية والمدنية إلى انتقائية في "الأهداف" المختارة، وفي وقت يسيطر فيه الجمود والانكماش على الوضعين المالي والاقتصادي وترتفع أسعار السلع رافعةً وطأة الأزمة على الطبقات الشعبية.
وأظهر عدم انعقاد الجلسة التشريعية التي كانت مخصصة لانتخاب اللجان النيابية وإقرار مجموعة من القوانين ذات الصلة بمكافحة الفساد واستعادة الأموال في 19 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، ارتفاع حدة الصراع السياسي بين تحالف التيار الوطني الحر وحزب الله وحركة "أمل" من جهة، وبين الفريق الذي قاطع الجلسة والذي تقاطعت فيه قوى تيار "المستقبل" والحزب التقدمي الاشتراكي والقوات اللبنانية، إلى حزب الكتائب وشخصيات نيابية معارضة ومستقلة، من جهة ثانية.
- تناقض الرهانات السياسية على حكومة ما بعد الحراك الشعبي اللبناني
- "حكومة تكنوقراط".. الفرصة الأخيرة لإنقاذ لبنان
تصاعد حدة الاشتباك السياسي وحسابات اللاعبين
مقاطعة الجلسة التي اعتبر الحراك الشعبي الاعتراضي أنه أسقطها بإقفال الطرق المؤدية إلى ساحة النجمة في وسط بيروت، أظهرت مجدداً الجانب الآخر من ديناميكية الوضع الحالي المتصل بالصراع السياسي وتعقده، وبسعي قوى 14 آذار لإحداث تغيير في التوازن السياسي القائم على انتخابات العام الماضي، الذي يعطي حزب الله والتيار الوطني الحر مع حلفائهما أكثرية نيابية.
وفيما تستمر أنشطة الانتفاضة الشعبية، أو تختار "أهدافاً" منتقاة للتعبير عن استمرار الاعتراض تجاه منظومات الفساد اللبنانية، وصل الخلاف حول موضوع التكليف الحكومي إلى المعادلة التالية: لا يريد فريق حزب الله والتيار الوطني الحر الانزلاق إلى مزيد من التشنج مع شارع رئيس الحكومة المستقيلة سعد الحريري تتصل بحسابات بعدم إثارة نزاعٍ مذهبي ومنع الحريري من التنصل من الأزمة، وفي الوقت نفسه لا يوافق هذا الفريق على شرط الحريري لترؤسه الحكومة المقبلة أن تكون "تكنوقراط" خالصة وإقصاء قوى سياسية بكاملها، انطلاقاً من مبدأ الشرعية الدستورية التي تتسلح به هذه القوى، فضلاً عن "عدم السماح" للحريري بأن يظهر بمظهر المنقذ المتنصل من مسؤولياته خلال ترؤسه الحكومة الماضية. أما الحريري فيتشبث بموقفه الرافض توزير شخصيات سياسية، من دون أن تكون لديه القدرة على حسم الأمور لصالحه.
وأتى إفشال التوافق على اسم الوزير السابق محمد الصفدي لترؤس الحكومة، بالتقاطع مع رغبة الشارع المنتفض والخليط بين المستقلين وأحزابٍ معارضة، وتبادل الاتهامات حول إسقاط ترشيحه بين تيار "المستقبل" والتيار الوطني الحر، ليطوي صفحة آخر محاولة جدية للخروج من المأزق الحكومي الحالي.
ويشير تصاعد الخلاف السياسي والكلامي بين ركني التسوية التي نشأت عشية انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية بين تيار المستقبل والتيار الوطني الحر، إلى ترنح هذه التسوية وتحول العلاقة بين الطرفين القويين في البيئتين المسيحية والسُنية، من استفادة متبادلة من هذه العلاقة في السنوات الثلاث الأخيرة، إلى محاولة استكشاف فرص الاستفادة من الاختلاف بعد "فك الارتباط" على أثر استقالة الحريري المفاجئة وغير المنسقة. ففي حسابات الحريري أن الخلاف مع الرئيس عون ورئيس "التيار الوطني" وزير الخارجية جبران باسيل، يعيد إليه ألق شعبيةٍ أفَلَتْ في الشارع السُني، ويحرره من تبعات العلاقة مع باسيل و"التيار"، في حين أن الفريق العوني يسعى إلى الكسب في "التحرر" من ارتباط "ثقيل" مع تيار سبق أن واجهه على مدى أعوام باتهامات التأسيس لمنظومة الفساد العميقة في الدولة، واضطر لمهادنته كنتيجة للتسوية وللاعتراف المتبادل بشعبية التمثيل السياسي والطائفي.
ويأتي التصريح الأخير لرئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط ليؤكد المعنى العميق للأزمة السياسية، بتأكيده أن العهد الحالي قد "انتهى"، ومطالباً بإبعاد وجوه سياسية في إشارة إلى جبران باسيل. والأهم أن تزخيم الرهانات السياسية على حساب الحراك الشعبي الرافع المطالب الإصلاحية والاقتصادية والاجتماعية، هو المسمار الأول والأكبر في محاولة دفن الانتفاضة الشعبية ومحاولة تقاسمها بين قوى منظومة الطائف التي يكمن رهانها الحقيقي في رفض وجود رئيس جمهورية قوي يمارس دوره، وهي التي لم تعتد بين عام 1990 و 2016 إلا وجود رؤساء جمهورية ضعاف ولا يملكون حيثية شعبية.
وقد وضع الانسداد الراهن لبنان أمام عدد من السيناريوهات. فإما أن يتم إقناع الحريري أو الضغط عليه لتشكيل حكومة من المستقلين وتشارك فيها القوى السياسية بنسبةٍ ضئيلة، انطلاقاً من استحالة الموافقة على تشكيل حكومة تكنوقراط خالصة برئاسته، أو يحصل توافق حول تسمية الحريري مرشحاً آخر لرئاسة الحكومة، أو تذهب قوى الأكثرية النيابية إلى تسمية شخصية غير الحريري، لكن هذا الخيار دونه محاذير إثارة غضب الأوساط الدينية والسياسية والشعبية وفيما تستمر أنشطة الانتفاضة الشعبية، أو تختار "أهدافاً" منتقاة للتعبير عن استمرار الاعتراض تجاه منظومات الفساد اللبنانية، وصل الخلاف حول موضوع التكليف الحكومي إلى المعادلة، وكل ما عدا ذلك هو استمرار حكومة تصريف الأعمال إلى أمد غير معروف و"جعجعة" من دون طحن.
المسار الخارجي
في ظل الصراع الدائر تغيب حتى الساعة أي محاولات خارجية للتدخل علناً لإيجاد حل سياسي على ما اعتادت عليه الطبقة السياسية التقليدية، من دون أن يخرج لبنان عن دائرة المراقبة الأمريكية والغربية اللصيقة، خصوصا الفرنسية، لتطورات الأوضاع.
وفي حين تصاعد بروز عامل الصراع السياسي بين القوى الحاكمة في التأثير والتأثر في ديناميكية الحراك الحالي، ازدادت أيضاً الرهانات الأمريكية على مآلات الوضع وبما لا يشكل سراً أو مفاجأة كبيرة. ذلك أن الدبلوماسي الأميركي والسفير السابق في واشنطن جيفري فيلتمان أفصح، وهو الخبير في الشؤون اللبنانية بعدما تولى تمثيل بلاده عشية منعطف عام 2005، عن ارتياح واشنطن إزاء ما رأت فيه من استهداف لحزب الله و"تآكل" شعبيته وتضرر صورته في الرأي العام اللبناني عامةً، والشيعي خاصةً، وهو ما يمثل بحسب فيلتمان فرصةً يجب اقتناصها لعزل حزب الله وزيادة النقمة في لبنان عليه عبر تخيير اللبنانيين بين وجود لبنان ووجود حزب الله، في الوقت الذي لفتت فيه إشارة السفير السابق إلى إمكانية استفادة روسيا من الفراغ الأميركي في حال لم تدرك واشنطن كيفية إدارة مصالحها في لبنان وعدم السماح بنشوء فراغ Vacuum للقوة.
ذلك أن استمرار حالة التشنج والحراك في لبنان بما يضغط على حزب الله وحلفائه، هو الفرصة المناسبة والمريحة لواشنطن نظراً لأنها لا تتطلب أيّ جهدٍ منها. ذلك أن العين الأمريكية كما تؤكد أوساط مطلعة تبقى على إبعاد حزب الله وتحجيم حلفائه منعاً من أن يشكلوا قوة ضغط في مسار ترسيم الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة، وفي أحقية لبنان في ثروته الغازية والنفطية.
على أن الأمثلة التاريخية تترك للقوى الخارجية حيزاً كبيراً في السعي لإيجاد مخارج وتسويات للأزمات، تكون فيها الطليعة عادةً لفرنسا الطامحة دوماً لممارسة نفوذ تقليدي في لبنان، ومن منطلق عدم قدرة واشنطن على أن تكون "وسيطاً" نزيهاً ولو بالحد الأدنى.
وهذا ما يُبقي لبنان راهناً في حال سباق بين الرهانات الداخلية والتدخلات الخارجية، على ما كان منذ تشكّل كيانه السياسي!