تناقض الرهانات السياسية على حكومة ما بعد الحراك الشعبي اللبناني
القضية في لبنان اليوم باتت تسجيل نقاط لتحسين المواقع بين قوتين أساسيتين: الأولى سعد الحريري والثانية رئيس الجمهورية العماد ميشال عون
بعد نحو شهر على اندلاع أقوى حراك شعبي في لبنان ذات طابع اجتماعي - اقتصادي، تصاعد الصراع بين القوى السياسية التي تتجاذب فيما بينها كرة النار وتحاول تسجيل النقاط على بعضها، في الوقت الذي باتت خطوات المنتفضين أكثر دقةً واستهدافاً، بعدما سمح فتح الطرق من قبل الجيش اللبناني وتكريس هذا الأمر بتوجيه الحراك نحو أهدافه الصحيحة.
وبعد أسابيع على قوة الإدارة الشعبية للحراك الذي أربك القوى المشاركة في السلطة وضغط عليها محاولاً انتزاع أكبر قدر ممكن من المكاسب، عاد وطفا المستوى السياسي على سطح المشهد اللبناني نظراً لأن الضغط تركز على كيفية ترجمة نتائج الحراك الشعبي في تشكيل حكومة جديدة تتطلب بحسب الدستور استشارات نيابية ملزمة يجريها رئيس الجمهورية.
النزاع السياسي على حساب الحراك الشعبي
باتت القضية تسجيل نقاط وتجاذباً لتحسين المواقع بين قوتين أساسيتين: الأولى رئيس الحكومة المستقيلة ورئيس تيار المستقبل سعد الحريري، ورئيس الجمهورية العماد ميشال عون وركيزته الشعبية التيار الوطني الحر وحزب الله وحلفائه من جهةٍ ثانية.
فالحريري وجد الفرصة مناسبة لتحسين موقعه في المعادلة عبر محاولة الاستفادة من الحراك الشعبي لينفض يديه من مساوئ الإدارة الحكومية للوضع المالي والاقتصادي، فيحقق مكسبين الأول التقارب مع الحراك الشعبي وبروزه بمظهر "المنقذ"، والثاني إعادة اكتساب عطف شارعه السُني الذي ابتعد عنه على إثر ما عُرف بـ"التسوية الرئاسية" بينه وبين التيار الوطني الحر عشية انتخابات رئاسة الجمهورية في عام 2016 من خلال الخلاف المستجد مع "التيار الوطني".
وعلى يمين الحريري، تتربص كل من القوات اللبنانية بقيادة الدكتور سمير جعجع والحزب التقدمي الاشتراكي بقيادة وليد جنبلاط والقوى والشخصيات والهيئات السُنية المعارضة لتسوية الحريري مع الفريق العوني بالعهد الرئاسي، محاولةً الاستفادة من الحراك للتصويب على عون وركيزته الشعبية والحزبية المتمثلة بالتيار الوطني الحر بقيادة وزير الخارجية المثير للجدل جبران باسيل.
تقع رهانات هذا الفريق المعارض لعون والمواجهة بقوة لحزب الله في أن الرئيس "القوي" على ما أبرزت أدبيات المؤيدين له عشية الانتخابات الرئاسية وبعدها، يمثل تهديداً لمنظومة ما بعد اتفاق الطائف التي تأسست بين الزعامات الممثلة للبيئات الإسلامية، في مقابل رئيس مسيحي لا يمثل الشارع المسيحي ووجدانه وشعبيته.
من هنا، يمكن فهم تركيز الرئيس السابق للحكومة فؤاد السنيورة الذي بادر إلى تأسيس مجموعة من رؤساء الحكومات السابقين، ومحاطاً بمجموعة من النخب الإعلامية والفكرية السُنية، على ما يعتبرونه تجاوز الرئيس لاتفاق الطائف ومندرجاته، وقد أبرز التصريح الأخير للسنيورة عما وصفه بتجاوز الرئيس للطائف بممارسة صلاحياته جوهر حقيقة الاعتراض على نهج عون في رئاسة الجمهورية.
مكمن التصويب أن عون أمّن حضوراً قوياً في ممارسة صلاحياته الدستورية، لم تكن معهودة بين عامي 1990 - 2016 تاريخ انتخاب أول رئيس جمهورية بعد الطائف يتمتع بحيثية شعبية وازنة، بل كبيرة.
ونتيجة إدراك التيار الوطني الحر وحزب الله مرامي الحريري التي تتقاطع مع مصلحة الدول الغربية في تحسين مواقع حلفائها في مواجهة حزب الله وإخراجه من الحكومة العتيدة، بادرَ هذا الفريق إلى إعادة رمي الكرة لدى الحريري وتحول المستوى من النزاع السياسي إلى تبادل كرات بين القوى المشاركة في السلطة، على وقع استمرار التحركات الشعبية التي تعبر عن مزيد من الهوّة بين المنتفضين والشارع والقوى السياسية.
ويتركز النزاع الراهن على تمسك فريق رئيس الجمهورية اللبنانية وحزب الله بمعايير موحدة في تشكيل الحكومة وتأكيد الجمع بين حكومة "تكنوقراط"، المصطلح الرائج حالياً في لبنان ويعني أخصائيين من خارج الانتماءات السياسية والحزبية، وحكومة تجمع بين الشخصيات الأخصائية المستقلة بما يلبي مطالب الحراك الشعبي وتمثيل القوى السياسية الموجودة في البرلمان.
دعم موقف الفريق المتمسك بالتمثيل السياسي أن الانتخابات البرلمانية الأخيرة لم يمضِ عليها أكثر من سنة وستة أشهر، بما يمنحها الشرعية الشعبية اللازمة، خاصةً أن "بروفة" إظهار القوة الشعبية للأحزاب المشاركة في السلطة برزت مع تحرك شعبي كبير داعم لرئيس الجمهورية على طريق بعبدا مقر القصر الجمهوري الرئاسي.
مخاوف حزب الله ورهاناته
يُعد حزب الله من أكثر الرافضين لفكرة حكومة "التكنوقراط"، لأنه يعد أن ما وراء هذا النوع من الحكومات يتمثل في إخراجه من المعادلة السياسية تلبية للضغوط الأمريكية والغربية، ولذلك اعتمد خطاباً متوجساً من الحراك الشعبي في البداية كما برز في خطابات الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله ومتدرجاً في اتجاه استيعاب هذا الحراك ومطالبه الشعبية في مرحلةٍ لاحقة، ومحاولة حصرها بالبعد الاقتصادي - الاجتماعي، خاصةً أن "الحزب" لا يستطيع تجاهل أن بيئته الشيعية أبرزت انتفاضاً كبيراً على رموز الطبقة الحاكمة وأقواها حليفه رئيس مجلس النواب وحركة "أمل" نبيه بري الذي كان يعد المسّ به ورمزيته ضرباً من المحرمات.
وقد أبرز الخطاب الأخير لنصر الله مقاربة تضع تداعيات الحراك الشعبي في الإطار الإقليمي والضغط الدولي، فطرح اقتراحات مقابلة خلاصاتها التوجه إلى الشرق في العلاقات الاقتصادية على مستوى القوى الكبرى فيه، محدِّداً الصين، ومعيداً التذكير بأهمية فتح الطريق السياسية مع الدولة السورية مع ما يطرحه ذلك من بديل اقتصادي للبنان في مقابل سياسة "العصا والجزرة" الأمريكية والغربية.
يقود ذلك إلى أن الوضع السياسي الحالي المتمحور حول الاتفاق على اسم رئيس الحكومة المقبل ونوعية هذه الحكومة، بما اصطُلح عليه في لبنان "التأليف قبل التكليف" واعتُبر أنه سابقة دستورية، يتركز بين ضفتي نزاع وتجاذب تحاول كل منها منع استخدام الحراك الشعبي وتداعياته على حسابها، في الوقت الذي تستمر فيه تحركات الشارع التي تركز على مراكز وبيوت شخصيات تعد أنها رمز للفساد التكويني في النظام اللبناني.
الانخراط الخارجي
في موازاة المسار الداخلي، لم تعدِم أزمات لبنان ما بعد الانسحاب السوري في عام 2005 دخول فرقاء خارجيين يقودون وساطات لحل أزمة الحكم، غالباً ما تكون بواجهة فرنسية تتقاطع مع تواصل مع إيران، كما حصل عشية لقاء "التحالف الرباعي" في عام 2005 المكون آنذاك من الطبقة الحاكمة في الطائف في مواجهة العماد ميشال عون آنذاك وعشية الفراغ الرئاسي في عام 2007.
ذلك أن لبنان يبقى راهناً تحت المراقبة الغربية التي على قدر ما تدفع في اتجاه تطويق حزب الله، فإنها في الوقت نفسه تعمل على حماية حلفائها وعدم خسارتهم أوراقهم، وهذا ما يظهر في متابعة فرنسية حثيثة للوضع اللبناني وكيفية تمثيل الحراك الشعبي.
هذا المسار يتواصل على صفيح من التوتر الاجتماعي الشديد والمتصل بالمخاوف من انهيار مالي، وسط تضييق شديد من المصارف على عملها وطلبات المودعين، ما يزيد من حجم التحديات الملقاة على عاتق الحكومة الجديدة التي ستحمل على عاتقها وزر الأثقال المالية والاقتصادية والسياسية في نظامٍ بات منهكاً ومترنحاً ومجتمعاً ناهضاً يبحث عن مواطنية مفقودة.
aXA6IDE4LjIxNy4xNDAuMjI0IA==
جزيرة ام اند امز