الصورة الراهنة لمفاوضات الجولة الجديدة في فيينا غير واضحة ولا تحمل جديدا، نظرا لحرص الجانبين على إطلاق تصريحات متضاربة.
ربما يحدث هذا استمرارا لمخطط التشويش على تباين المواقف والتوجهات لكل طرف في المفاوضات، حيث لا يزال جايك سوليفان، مستشار الرئيس الأمريكي للأمن القومي، وروبرت مالي، المبعوث الأمريكي الخاص إلى إيران، متمسكين بالتوصل إلى حل، والعمل على تجزئة التوصل إلى اتفاق يحفظ المتطلبات الأمريكية الراهنة من المراوغات الإيرانية، وفي الوقت نفسه لا يصطدم بالمواقف الإيرانية إزاء ما يجري، خاصة أن عدم التقابل على أرضية واحدة، أو التوصل لنقطة توازن، سيؤدي إلى تداعيات سلبية على أمن الإقليم بأكمله، وقد يؤدي إلى حالة من عدم الاستقرار.
فالفشل أو تأجيل الحسم سيعني بالنسبة لبعض الدول خطرا كبيرا، وهو ما عبّر عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي مؤخرا في مؤتمر هرتسيليا، وأكده وزير دفاعه، أن إسرائيل لن تقبل بالوضع الراهن، ولن تتعامل مع مستجدات، سواء بالاتفاق أو عدم التوافق، ومن ثم فإن تحركها -أي إسرائيل- سيكون منفردا حتى لو اصطدمت مع الإدارة الأمريكية، وهو ما تروج له الدوائر الرسمية الإسرائيلية عن قرب، كما أن الدول العربية، خاصة الخليجية، لن تقبل أن تستمر المساومات الإيرانية على أمن الإقليم وتغذية الوكلاء بالأهداف، وتهديد أمن العالم، بتهديد الملاحة، وتهديد أمن المنطقة عبر مليشيات "حزب الله" و"الحشد الشعبي" و"الحوثي"، فضلا عن رفض هؤلاء جميعا دفع الإدارة الأمريكية للبدء في رفع العقوبات عن إيران، ولو مرحليا، سواء في دائرة مفاوضات فيينا، أو خارجها، ما يؤكد أننا أمام تصورات ثنائية وفردية عربيا وإسرائيليا، للعمل خارج دائرة التفاوض الراهن في فيينا، لأن الفشل في التوصل إلى نقطة بداية سيعني الانطلاق نحو مرحلة جديدة من المواجهات.
مقابل ذلك، يرى بعض مسؤولي الإدارة الأمريكية أنه لا توجد مشكلة في امتلاك الجانب الإيراني القنبلة النووية في ظل مراقبة كبيرة ومستمرة، ما سيُلزم الجانب الإيراني بالعديد من التعهدات، لكن هذا الأمر غير صحيح، فقد يؤدي إلى تداعيات كبيرة على أمن العالم العربي بأكمله، ومعهم إسرائيل، التي سبق أن حذرت تقاريرها الاستخباراتية من أن إيران باتت على مقربة من العتبة النووية، وبالتالي فإن استمرارها في التفاوض الراهن وعدم التزامها بأي تنازلات، قد يؤديان إلى مسعاها للتوصل إلى النووي، بهدف تغيير قاعدة التفاوض الراهنة أصلا، والفكاك من الدائرة النارية، التي تحاول الإدارة الأمريكية إدخال طهران فيها، وهو ما لن يحدث، ومن ثم فإن التشكيك في النوايا والإجراءات الإيرانية سيظل واردا، في سياق انفتاح جدول مفاوضات فيينا ليشمل تفاصيل أخرى تم استبعادها من جولات سابقة، ما قد يكلف الجانب الأمريكي، الذي قد يشرع في تقديم تنازلات جديدة لإيران قد تؤثر على مفصلية منظومة التفاوض الراهنة، أو المحتملة التي يريدها كل طرف، فالإدارة الأمريكية ضد استمرار التفاوض المفتوح، مع تلويحها بالخطط البديلة.
ترى إيران أن الوقت يعمل لصالحها، والإعلان عن عدم التوصل لأي شيء في المفاوضات مهم ورسالة لكل طرف بضرورة التفاوض الحقيقي على كل ما طُرح، خاصة أن إيران قد تندفع إلى توجيه أدواتها الفرعية للعمل، ونقل رسائل بالحضور للأطراف العربية المعنية، ومن ثم فإن الإشكالية الحقيقية ستربط بما سيجري في دول مثل لبنان وسوريا واليمن والممرات المائية والبحرية، وحركة التجارة العالمية ومجالات الشحن والتحركات الاستراتيجية وغيرها، ما يؤكد أننا أمام مسارات ستفرض نفسها في فترة التفاوض الراهنة.. أولها: حرص الإدارة الأمريكية على التعامل بحذر مع إيران، حيث امتنعت عن الرد العسكري على هجوم نفّذته الأخيرة ضد قاعدة أمريكية في منطقة "التنف" في سوريا، فيما وظفت إيران جهودها الدبلوماسية قبل بدء مفاوضات فيينا، إذ أجرى نائب وزير الخارجية الإيراني ورئيس وفد المحادثات في فيينا جولة محادثات في دول أوروبية، فضلا عن التواصل بكثافة مع روسيا والصين.
وتكمن المصلحة الأمريكية في التوصل إلى حل دبلوماسي يكبح تقدُّم إيران في برنامجها النووي، حيث يأتي هذا الهدف بعد أن أدّت جهود طهران في مجال تخصيب اليورانيوم على درجة عالية إلى تقصير الجدول الزمني، الذي وضعه الاتفاق النووي بصورة كبيرة، مع إبقاء إيران على مسافة محددة من قرار إنتاج كميات كافية من المواد في منشأة نووية، ولا يمكن تقدير ما إذا كانت إيران قد قررت العودة إلى محادثات فيينا مع نية حقيقية لإجراء محادثات والتوصل في نهايتها إلى اتفاق يعيد الوضع إلى ما كان عليه سابقاً، بحسب اتفاق 2015، أم أن طهران قررت عدم العودة إلى الاتفاق الأصلي، وذهابها إلى فيينا هو مجرد استجابة للضغوط التي مورست عليها.
ثانيها: يسيطر على الإدارة الأمريكية، وعلى شركاء آخرين في الحوار مع إيران، الفهم بأن فرص فشل المحادثات في الظروف الحالية أكبر بكثير من إمكان التوصل إلى تفاهمات للعودة الكاملة إلى الاتفاق النووي، كما تُطرح أفكار مختلفة ليس واضحاً احتمال تحقيقها دون الحاجة إلى انتهاج خطوات يمكن أن تؤدي إلى تصعيد، كما أن واشنطن تبحث مع إسرائيل فكرة "اتفاق مؤقت" توقِف إيران، في إطاره، كل انتهاكاتها للاتفاق النووي "تخصيب اليورانيوم على درجة عالية، معالجة اليورانيوم المعدني، تخصيب في أجهزة طرد مركزية متطورة"، مقابل أن تسمح الولايات المتحدة بتصدير النفط الإيراني، وتحرير جزء من الأموال الإيرانية المجمّدة في الخارج.
ثالثها: ستبقى بعض الخيارات أمام الإدارة الأمريكية في التعامل، سواء باستمرار التفاوض أو الوقف التكتيكي للضغط على إيران، وأهم هذه السياسات السعي لإبرام اتفاق نووي مؤقت أقل طموحا، وشن عمليات سرية لتخريب برنامج إيران النووي، والقيام بضربات عسكرية ضد المنشآت النووية الإيرانية، أو دعم عمل عسكري إسرائيلي.
ويبدو أنه إذا فشلت مفاوضات فيينا، فإن الوضع قد يشبه المواجهة المتوترة قبل الاتفاقية النووية، حيث كانت إسرائيل تفكر بجدية في توجيه ضربة عسكرية لمنشآت إيران النووية، وفرضت واشنطن عقوبات صارمة على طهران.
وسيبقى أحد الاحتمالات الممكنة نظريا هو إبرام صفقة مؤقتة، حيث يوافق كل طرف على اتخاذ خطوات متواضعة، أو بشكل أساسي تجميد الوضع الراهن في انتظار التوصل إلى اتفاق مستقبلي، مع التحسب إلى أن زيادة الضغط قد تعني تضييق الخناق على مبيعات النفط الإيراني، كما أن إسرائيل ستعمل على أن تتضمن تصوراتها خُططَ طوارئ في حالة وصول البرنامج النووي الإيراني إلى نقطة اللا عودة.
في المجمل، ستبقى كل السيناريوهات واردة وكل المشاهد محتملة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة