أزمة الثقة بين أجهزة الأمن الأوروبي فجّرت كارثة بروكسل (خاص)
خبراء دوليون يكشفون لــ"العين" خبايا "الثلاثاء الأسود"
خبراء أمنيون واستراتيجيون دوليون يكشفون لـ"العين" خبايا الثلاثاء الأسود، ويرجعونه إلى أزمة ثقة بين الأجهزة الأمنية الأوروبية
بشكل استثنائي قرر الدكتور نيكولاس وايت أن يستقل سيارته يوم الثلاثاء الماضي من منزله في ضاحية خارج بروكسل للذهاب إلى عمله بدلا من المترو. وعندما دخل الشارع المؤدي لميدان شومان -أشهر ميادين بروكسل والتي يقع بالقرب منه مقر الاتحاد الأوربي- وجد الفوضى في كل مكان وعشرات من عناصر الشرطة تهرع إلى محطة مترو مايلبيك.
" كُتب لي عمرٌ جديد، كنت سأستخدم المترو للوصول إلى مايلبيك في هذا اليوم، وتحديدا في نفس التوقيت الذي وقع فيه التفجير،" هكذا تحدث وايت لـ"العين" من بروكسل عن تجربته يوم الثلاثاء الأسود والذي شهد ثلاثة تفجيرات استهدفت مطار المدينة وخدمة المترو.
دكتور نيكولاس وايت يرأس "أباكو الدولية،" إحد كبرى مجموعات الاستشارات السياسية والاقتصادية عالميا، وقد شغل قبل توليه المنصب عددا من المناصب المنظمات الدولية من ضمنها مجموعة الأزمات الدولية. ويقول إن خط المترو المتجه لمنطقة مايلبيك ينقل يوميا مئات من موظفي الاتحاد الأوروبي من بينهم كبار المسئولين الأوروبيين كالوزراء والمفوضين، وفي حال نجح الانتحاري في تفجير المحطة التي تسبق مايلبيك أو المحطة التي تليها لارتفع عدد القتلى بشكل كبير.
" تفجيرات بروكسل كشفت ضعف سياسات أجهزة الاستخبارات الغربية في حماية أمنها الداخلي، إلا أن ذلك ليس دليلا على أن داعش تكسب المعركة بل بالعكس" كما يؤكد وايت. ويتفق معه خمسة خبراء دوليين متخصصين في مكافحة الإرهاب الدولي تحدثوا لـ"العين" من أربعة عواصم غربية مختلفة حول الخيارات المتاحة أمام دول الاتحاد الأوروبي للتعامل مع "كارثة الإرهاب من الداخل" كما وصفتها مجلة دير شبيجل الألمانية في عددها الأخير.
الخبراء أكدوا لـ"العين" أن تفجيرات باريس والتي وقعت نوفمبر الماضي، وتفجيرات بروكسل الأخيرة أصبحت بمثابة نقطة تحول في السياسات الأمنية المشتركة لدول الاتحاد الأوروبي، والذي بالرغم من نجاحه في سياسات الدمج اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، فقد فشل في تحقيق التعاون أو حتى التنسيق على المستوى الأمني.
فهجمات الثلاثاء الماضي هي حصيلة عدم إدراك مشكلة الأمن الداخلي منذ نحو عشر سنوات، ويمكن قراءاة ذلك برسم خط بين تفجيرات مدريد 2004 ولندن في يوليو 2005، وحادث تشارلي إبدو يناير 2015، وهجمات باريس نوفمبر 2015، وأخيرا هجمات بروكسل.
ففي الوقت الذي نجحت فيه القاعدة ومن بعدها تنظيم داعش الإرهابيين، في بناء خلايا نائمة في أوروبا تستطيع تجاوز حدود الدول في التخطيط والتنفيذ لهجمات بهذا الحجم مستغلة حرية التنقل والحركة داخل دول الاتحاد، فقد فشلت الأجهزة الأمنية والاستخبارية الأوروبية في خلق نظام أمني إقليمي يتجاوز الحدود ويصل فيه التنسيق لمستوى يستوعب التعامل مع هجمات إرهابية بهذا التعقيد، ومستوى يستطيع أيضا توفير ضمانات أمنية لحجم حرية الحركة بين الدول الأوروبية.
كاثرين باور والتي عملت حتى نهاية العام الماضي ككبير مستشاري وزير الخزانة الأمريكية لشئون تمويل الإرهاب قالت في تصريحات خاصة لـ"العين" من واشنطن، إن دول الاتحاد الأوروبي لديها مشوار طويل من أجل الوصول لمستوى تنسيق أمني عالٍ يضمن الحدّ من هجمات إرهابية بحجم ما حدث في باريس وبروكسل.
وأضافت باور والتي خدمت في العديد من دول الشرق الأوسط في عمليات تتبع تمويل الجماعات الإرهابية، أن الوضح الحالي يمكن وصفه بلغة المتخصصين "لا يرقى لمستوى التهديد،" حيث إن هناك الكثير من الأدلة تؤكد وجود ثغرات كبيرة في النظام الأمني الأوروبي؛ ومن ضمن هذه الأدلة هي أن قاعدة البيانات المركزية للاتحاد الأوروبي مسجل بها 1500 عنصر إرهابي أجنبي سافر إلى سوريا أو العراق للجهاد في الخارج، في حين أن الرقم الحقيقي قد يصل إلى خمسة آلاف عنصر إرهابي. وأشار أنه ليس لدى الكثير من الأجهزة معلومات محدثة عن تحركات هذه العناصر وهل مازالت في بلادها أم سافرت للجهاد في الخارج.
وبالتالي فإن باور تؤكد أن دول الاتحاد الأوروبي يجب أن تواجه هذه الأزمة بالعديد من السياسات والإجراءات، من ضمنها خلق قاعدة بيانات قوية مشتركة، وبناء أواصر ثقة بين الأجهزة الأمنية من شأنه ضمان تحديث قاعدة البيانات بشكل دائم، وتجنب أن يحتفظ جهاز كل دولة بما لديه دون دعم الدول الأخرى بهذه المعلومات.
وتؤكد أن نجاح مكافحة الإرهاب لا يمكن أن يكتمل دون وجود نظام قوي لتتبع تمويل الجماعات الإرهابية، فإغلاق منبع التمويل يجعل الخلايا الموجودة على الأرض في وضع هش ويقلل من قدراتها على تنفيذ هجمات كبيرة.
ويبدو أن خلق آلية واضحة لتبادل المعلومات بالشبكات الإرهابية على المستوى الأوروبي هي أهمية قصوى ولكنها ليست اقتراح جديد وتم طرحها أكثر من مرة من قبل "منسق مكافحة الإرهاب الأوروبي"، وهو مكتب تنسيقي أسسته رئاسة الاتحاد منذ عشر سنوات، إلا أنه لا يملك أي صلاحيات أو ميزانية تمكنه من القيام بأي دور مؤثر.
وفي الوقت الحالي يوجد العديد من قواعد البيانات المشتركة بين الدول الأعضاء وأهمها "قاعدة بيانات الشنجن" Schengen Information System لتبادل المعلومات عن المسافرين من وإلى الدول الموقعين على اتفاقية الشنجن. ومن المفترض أن تشمل قاعدة الشنجن أي بيانات وخلفيات عن أي مسافرين قد تكون بعض الدول قد حصلت على مثل معلومات تفيد بضلوعهم في نشاط إجرامي أو إرهابي. إلا أن معظم الدول لا تلتزم بذلك، بل تتجنب العديد من أجهزة الأمن الأوروبية وضع أي معلومات ذات قيمة حول أي عناصر إرهابية على هذه قاعدة بيانات الشنجن، كما أكد مسؤول التبادل الاستخباري بالمخابرات الفرنسية جون ماري ديلور في شهادته أمام البرلمان الأوروبي أوائل العام الجاري.
وهنا يؤكد جريجوري جيدنرو وهو خبير مكافحة الإرهاب الدولي بجهاز الاستخبارات الوطنية الرومانية سابقا في حوار لـ"العين" من بوخارست، أن تحدي تطوير آلية تبادل المعلومات بين الدول هو الخطوة الأهم في تطوير استراتيجة أوروبية فعالة لمواجهة التهديدات الإرهابية، وبدونها سيبقى الحال كما هو عليه.
وأضاف أن التحدي الأساسي سيكون في كيف يمكن للأجهزة الاستخبارية أن تثق ببعضها، خاصة أن هناك دولا أوروبية ليس لديها خبرة قوية في هذا المجال. وأشار إلى أن التحدي الثاني سيكون هو استخلاص كل دولة للمعلومات الموجودة على قاعدة البيانات وخلق خطط أمنية خاصة بها لمواجهة الأخطار الداخلية بما يتناسب مع طبيعتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
وهنا يرد كريستوفر تشافيز، رئيس برنامج الأمن والدفاع الدولي بمؤسسة راند الأمريكية للأبحاث في حوار لـ"العين" قائلا إن فكرة تأسيس قاعدة بيانات ينشر عليها المعلومات بشكل يومي حول الأنشطة الإرهابية والإجرامية والتي أحيانا تكون مرتبطة ببعضها البعض، تحتاج قدرا كبيرا من الثقة بين الأجهزة الأمنية الأوروبية، وهذا يحتاج لعدد كبير من الضمانات لعدم تحويل قاعدة البيانات لنقطة ضعف لأجهزة الأمن الأوروبية.
وبالتالي كما يؤكد تشافيز -والذي عمل في السابق كمسئول الملف الأوروبي بمكتب وزير الدفاع الأمريكي- أن تحقيق هذه الضمانات تحتاج إلى قدرات وإمكانيات عالية لحماية هذه الشبكة من الناحية التقنية وكذلك التأمين المضاد لأي تسريبات.
ويرى تشافيز أن الكثير من الأجهزة الأمنية الأوروبية تحتاج أيضا خبرة أكثر في جميع نواحي عمليات مكافحة الإرهاب الداخلي، وهي خبرة أثبتت الهجمات الأخيرة على بروكسل أنها غير ضعيفة للغاية.
ويعد أكثر دليل على ضعف خبرة أجهزة الأمن الأوروبية على مكافحة الإرهاب الداخلي هو عدم قيام العديد من الدول الأوروبية باستثناء بريطانيا وفرنسا وألمانيا، بمتابعة أنشطة مواطنيها الذين سافروا للقتال في سوريا أو العراق. فأحد منفذي عملية بروكسل وهو إبراهيم البكراوي وقد تم ترحيله مرتين من تركيا العام الماضي للاشتباه في انضمامه لجماعات إرهابية، ومع ذلك لم تتخذ السلطات البلجيكية أي إجراءات من المراقبة أو غيرها، فوجود مثل هذه الإجراءات كان قد يحول دون تفجيرات باريس وبروكسل، لأن الخلية التي ينتمي لها البكراوي تشير النتائج الأولية للتحقيقات، أنها قامت بالتخطيط للعمليتين في بلجيكا.
فريان خان، وهي مدير مؤسسة "أبحاث وتحليلات الإرهاب" بولاية نورث كالورينا بالولايات المتحدة ، أكدت لـ"العين" أن أوروبا تحركت في عدة اتجاهات عقب هجمات باريس لم تسفر عن تقدم ملموس في حماية جبهتها الداخلية. ومن ضمن هذه الإجراءات هو قيام عدد من الدول الأوروبية مثل فرنسا وبريطانيا بالتحرك في الأروقة الدولية والتفاوض حول قرارات من شأنها تعزيز التنسيق والقرارات الأممية في مجال الحرب على داعش سواء في سوريا أو العراق.
هذا إلى جانب التحرك عسكريا خارج البلاد بشن ضربات جوية ضد تنظيم داعش، والتي قد تكون حققت بعض التقدم، إلا أن اختباء عناصر داعش بين المدنيين وهذا يصعب من استهداف أي أهداف إرهابية، وبالتالي يقلل من أهمية الضربات العسكرية.
وترى خان أن الاتحاد الأوروبي لم يبذل أي مجهود في مجال الحملات الإعلامية والتوعية ضد الإرهاب كما تفعل الولايات المتحدة وكندا. وتضيف أن تنظيم داعش أقوى تأثيرا من حيث "البروباجندا" من معظم الحكومات الأوروبية، وهذا يساعده في عملية تجنيد عناصر جديدة.
ويتفق الدكتور جيمس أفشر، وهو خبير متخصص في الإرهاب الدولي بجامعة ماساتشوستس الأمريكية، أن الحملات الإعلامية وخاصة من خلال استخدام وسائل التواصل الإجتماعي يجب أن تكون جزءا من الاستراتيجية الأوروبية لمكافحة الإرهاب في مرحلة ما بعد تفجيرات باريس.
ويضيف أفشر لـ"العين" أن الأهم من ذلك هو تكثيف التعاون على كافة المستويات مع الدول الإسلامية، والتي يمكنها أن تسهم في القضاء على التطرف عن طريق نشر الفكر الإسلامي الصحيح، وإظهار مدى رفض أغلبية المسلمين للإرهاب.
aXA6IDE4LjIxNy4yNTIuMTk0IA==
جزيرة ام اند امز