إن أزمة سعر الصرف ليست هي المشكلة الحقيقية بل هي مجرد عرض من أعراض المشكلة
ما إن تفجرت من جديد أزمة سعر الصرف في مصر، حتى احتلت مصر الاقتصادية مكان الصدارة في الصحف وسائر وسائل الإعلام، وسئل الخبراء من جديد عن أفضل سبل الاصلاح الاقتصادي.
هذه الظاهرة تتكرر منذ أكثر من أربعين عاما، ويتكرر نفس الكلام تقريبا دون تغيير، حتى ليتساءل المرء: ألا يصيب الناس الملل من سماع نفس التفسيرات، ونفس المقترحات للإصلاح، دون أن يمنع هذا من ظهور الأزمة من جديد، فيعود ذكر التفسيرات نفسها، والمقترحات نفسها؟
هكذا يتكرر القول إن أزمة سعر الصرف ليست هي المشكلة الحقيقية بل هي مجرد عرض من أعراض المشكلة، وهذا صحيح بلا شك، فالمشكلة الأساسية أننا منذ ما يقرب من خمسين عاما نعانى تراخى نمو الصناعة والزراعة، ومن ثم عجزهما عن سد حاجات الناس للسلع من ناحية، وعن تشغيل الباحثين عن عمل، من ناحية أخري، وعن تصدير سلع قادرة على منافسة منتجات الدول الأخرى في الأسواق العالمية، من ناحية ثالثة، هذا الفشل أو الأبعاد الثلاثة لابد أن ينتج عنه تواضع معدل نمو الناتج القومي، وارتفاع معدل البطالة، وزيادة العجز في ميزان المعاملات الجارية الخارجية، ومن ثم زيادة الاعتماد على القروض الخارجية والداخلية، وارتفاع معدل التضخم مع تدهور سعر الصرف.
كل هذا يقال المرة بعد الأخرى طوال الأربعين عاما الماضية أو اكثر، مع بعض الاختلافات في المشكلة التي يجرى تأكيدها، بحسب اختلاف الأعراض، وتغيير موضع الجسم الذى نحس فيه بالألم. ومن ثم كانت الأدوية التي ينصح بها الخبراء (أو بالأحرى المسكنات) تختلف من فترة لأخرى بحسب مصدر الألم، ولكن الأسباب الحقيقية هي في الواقع، دون أن نتصدى لهذه الأسباب بالجدية الكافية طوال هذه الفترة.
ففي السنوات الثماني التالية لحرب 1967 (67 ـ 1975) اعتمدنا على قروض ومساعدات من الدول العربية، كما قبلنا التضحية بمعدلات عالية للتنمية في محاولة إنقاذ ما يمكن انقاذه، لمواجهة الأعباء المترتبة على هزيمة 1967 (إغلاق قناة السويس، احتلال آبار البترول في سيناء، نفقات اعادة التسليح، فضلا عن توقف المعونات الغربية). وفى السنوات العشر التالية للانفتاح الاقتصادي (75 ـ 1985)، اعتمدنا على تصدير العمالة المصرية للخليج، وفرحنا بارتفاع معدلات نمو الناتج القومي وانخفاض معدل البطالة دون أن نعالج المشكلات الحقيقية بالنمو الصناعي والزراعي، والأدهى من ذلك أننا تورطنا خلال هذه الفترة في ديون خارجية باهظة التكاليف ولم نكن في حاجة اليها
خلال الاثنتي عشرة سنة التالية (85 ـ 1997) انشغلنا بالمشاكل الناتجة عن تفاقم المديونية الخارجية، فرضخنا لتوجيهات صندوق النقد الدولي، ولم نحقق معدلات عالية للتنمية، وعادت من جديد مشكلة البطالة إلى الظهور.
وفى السنوات السبع التالية (97 ـ 2004) رفعت شعارات عن بعض المشروعات الكبرى (مثل توشكى) التي لا تساعد على حل أي مشكلة حقيقية، مستخدمين مبررات هي في الحقيقة عبارات انشائية من نوع (الخروج من الوادي الضيق)، في عهد حكومة الجنزوري، ثم عادت بنا حكومة عاطف عبيد إلى الرضوخ لتوجيهات المؤسسات الدولية بمزيد من الانفتاح وبيع القطاع العام، وذلك مرة أخرى دون التصدي للمشكلات الحقيقية.
ثم جاءت حكومة أحمد نظيف (2004 ـ 2011)، فزعمت أن الحل هو في فتح الأبواب للاستثمارات الأجنبية الخاصة، وتباهت بارتفاع معدل نمو الناتج القومي نتيجة لذلك، ولكن هذا لم يسهم في حل مشكلة البطالة، ولا في تنمية الصناعة أو الزراعة، وزاد توزيع الدخل سوءا. حدثت في اثناء ذلك الأزمة العالمية التي بدأت في 2008 فحطمت الآمال حتى في قدوم الاستثمارات الأجنبية الخاصة. فلما جاءت ثورة 2011 شهدنا مسلسلا من الآمال العالية التي لا تصاحبها أي سياسة أو رؤية اقتصادية تحدد لنا الطريق الواجب سلوكه.
كان لابد إذن أن تتفجر أزمة في سوق الصرف، كما رأينا منذ أيام قليلة، ولكنها جاءت فوق تل من المشكلات المتراكمة: انخفاض في معدل نمو الناتج القومي، زيادة في الديون الخارجية والداخلية، زيادة العجز في الميزان التجاري وميزان المعاملات الجارية، وعجز الموازنة العامة، وزيادة معدل البطالة مع ارتفاع معدل التضخم.
مما لا يخلو من طرافة الاقتراح الذي قدمه البعض بأن الحل هو في الاستعانة بآراء ثلاثة أو أربعة من الاقتصاديين المصريين المشهورين، الذين حققوا شهرة عالمية لذكائهم وسعة علمهم مما سمح لهم بالعمل في مؤسسات دولية لمدة طويلة، إذ قيل ان مثل هؤلاء هم من يستطيعون تقديم الحلول الحاسمة لمشكلة الاقتصاد المصري. وأنا أعتبر هذا طريفا لعدة أسباب، منها التساؤل عن السبب في عدم الأخذ بهذه الفكرة منذ زمن طويل، وترك الحالة الاقتصادية تتردى على هذا النحو مع وجود هؤلاء الخبراء، واستعدادهم بالطبع لتقديم أي خدمة تطلب منهم من أجل الاقتصاد المصري. ومنها أيضا أن هذا الاقتراح يصور حل مشكلة مصر الاقتصادية وكأنها مثل حل معادلة رياضية، ولا يميز من المعرفة الفنية بالعلاقات بين المتغيرات الاقتصادية وبين إدراك اعتبارات الاقتصاد السياسي التي تحتم الاعتراف بأن مشكلات من نوع مشكلات الاقتصاد المصري تحتاج إلى اتخاذ مواقف سياسية، ترى الصورة الاقتصادية كجزء من صورة اجتماعية وسياسية أشمل، وتوازن بين المصالح الاجتماعية المختلفة، وتتبنى ترتيبا ملائما للأولويات. هذا هو ما يقصد عادة بحاجتنا إلى «رؤية»، وهو غير مجرد توافر المعرفة الفنية بالعلاقات بين المتغيرات الاقتصادية. وهو بالتأكيد غير مجرد حساب ما يمكن أن يكون عليه معدل نمو الناتج القومي في سنة 2030 أو غيرها من السنوات.
من المحزن أن نقول إن هذه الرؤية المنشودة هي ما ظللنا نفتقده طوال الأربعين عاما الماضية، ومازلنا نعانى افتقادنا لها حتى اليوم.. ولكن هذا يثير التساؤل عن السبب في افتقادنا لهذه الرؤية كل هذه المدة الطويلة مما يحتاج إلى تفصيل في مقال آخر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة