طلال فيصل لـ"العين": نكتب الرواية لئلا يغمرنا النسيان
يقوم طلال فيصل بلملمة تفاصيل صغيرة بشارع الواقع أو في وثائق التاريخ أو من أفواه المتكلمين، لصنع متن روائي منها ينتمي في النهاية لكاتبه
ما بين باريس والقاهرة وشتوتجارت، يقتفي الروائي والمترجم المصري طلال فيصل أثر الملحن الراحل بليغ حمدي لكتابة رواية عنه. «اقتفاء الأثر» ربما تكون هي الكلمة المفتاحية في فهم علاقته بفنّ الرواية، أو بالقصّ على وجه عام.. طلال فيصل من المولعين بتقفي الأثر؛ سيرة مولع بالهوانم، سيرة فنان لم تستوعبه الأيام وناء بعبقريته "سرور"، سيرة ملحن عصفت به عواطفه وبحثه السيزيفي عن الحب "بليغ"..
هكذا يقوم طلال بلملمة تفاصيل صغيرة في شارع الواقع أو في وثائق التاريخ أو من أفواه المتكلمين، وصناعة بنيان روائي منها، ينتمي في النهاية لكاتبه، وتنبغي قراءته بمعزل عن المصدر الذي استمد منه الكاتب حكايته.
هنا حوار مع الكاتب والروائي والمترجم طلال فيصل، وحديث عن مشروعه الروائي الثالث المنتظر صدوره العام الحالي..
نبدأ من أحدث مشروعاتك الروائية.. حدثنا عن «بليغ»؟
الرواية التي انتهيت منها مؤخرا وأنتظر صدورها آخر العام، تتعرض لحياة الموسيقار المصري المعروف بليغ حمدي وتقاطعها مع حكاية الراوي الذي يكتب عنه، مطاردا بين الهوس ومحاولة تقصي أثر سيرة هذا الموسيقار. الرواية، والتي تدور الكثير من أحداثها بين باريس ومصر، وبين فترة ما بعد الثورة وفترة إقامة بليغ في باريس عام 1984. وهي استكمال لما بدأته في رواية «سرور» قبل ذلك، وهو محاولة تقديم النوع الفني المعروف برواية السيرة، والتي تستخدم تفاصيل حقيقية ووثائق لشخصية حقيقية، من التاريخ المعاصر، وتستخدمها في بناء رواية، تنتمي للبحث التاريخي وللوقائع الحقيقية، بقدر ما تنتمي لخيال كاتبها ورؤيته.
ما الذي جذبك لمتابعة الكتابة في هذه المنطقة «رواية السيرة».. أعلم أن «بليغ» لن تكون الأخيرة في هذا المشروع؟
في كل رواية أكتبها بشكل عام، وفي رواية السيرة بشكل خاص، يكون هناك سؤال شخصي وملح هو المحرك الرئيسي لكتابة هذه الرواية. في «سرور» مثلا كان السؤال هو الاختيار بين الاصطدام أو المراوغة؛ هل ينبغي للفنان أن يتفرغ لمشروعه ويكتفي بكتابة آرائه داخل أعماله الفنية، أم أن الصدق يقتضي أحيانا أن يصطدم الفنان بشكل شخصي بالمجتمع وبالسلطة، حتى وإن كلفه ذلك بعض الخسائر.
وما هو سؤال «بليغ»؟
في «بليغ» السؤال الشاغل هو قصص الحب التعيسة، هل يمكن أن نعرف بالضبط في القصص العاطفية ما الذي حدث؟ إن كلّ طرف دائما له نسخة من الحكاية، هل يعني ذلك أنه لا توجد حكاية صلبة حقيقية، وأن الأمر كله يعتمد على زاوية الإدراك. بالمعنى ذاته، وبمدّ الخط على استقامته من الحب إلى باقي أسئلة الميتافيزيقا، سؤال مثل وجود الله، أو سؤال رومانسي مثل ما حدث في الثورة المصرية، هل يمكن الوصول لإجابة شافية له، أم أنه لا يوجد أصلا إجابة شافية؟
وما الذي يحتاجه الروائي تحضيرا لكتابة مثل هذه الروايات التي تعتمد بالأساس على مادة واسعة ومتشعبة؟
هناك مرحلة البحث العادية؛ قراءة الصحف والكتب المتعلقة بالفترة، مشاهدة الحوارات أو سماع الأغاني المتعلقة بالرجل. الموسيقى ركن رئيسي في رواية يدور الجزء الأكبر منها عن رجل حياته بالكامل هي الموسيقى، كذلك القراءة في التحليل الموسيقي وثم تطور الأمر لأخذ درس موسيقي مع مدرسة متخصصة في شتوتجارت، حيث أعيش، لفهم المصطلحات وتعلم مبادئ العزف. الغريب، أن المدرسة، وهي ألمانية، كانت تلقي الكثير عن الملاحظات حول موسيقى الرجل، والتي تم تضمينها في العمل - بشكل أرجو ألا يكون مُقحما.
بعد ذلك، وأنا تقريبا في منتصف الرواية تلقيت اتصالا تليفونيا من ابن شقيق بليغ حمدي، تامر حمدي، والذي أطلعني بكرم بالغ على الكنز الذي لديه - كراتين كاملة من كراسات ومدونات لعمه بخط اليد، أو شرائط كاسيت مسجلة بصوته، وتعليقات على كتب كان يقرؤها في أيامه الأخيرة وهوامشه عليها، كذلك رسائل متبادلة بينه وبين نجوم زمنه، وأهمها كروت شخصية كان يرسلها لزوجته وحبيبته وردة - والتي تكشف الكثير عن طبيعة العلاقة بينهما.
العجيب، أن الكثير مما كتب بالفعل كان متطابقا مع الوثائق قبل الاطلاع عليها، والذي منحني راحة كبيرة أنني أمضي في الاتجاه الصحيح، وأن تصوري للحكاية قريب مما حدث بالفعل. في النهاية أنا أقدم عملا فنيا، رؤيتي الشخصية للحكاية، ولكني أيضا مدين بالإنصاف والأمانة في تمثل صوت صاحبها. إن كان ثمة شعار يمكن اعتماده منهجا بالنسبة لي في كتابة السيرة فهو قول أبي العلاء المعري، لا تظلموا الموتى وإن طال المدى، إني أخاف عليكمو أن تلتقوا!
كيف تتشكل الرواية داخل الروح، ما المساحة التي تحتلها عملية النسج بوعي طلال فيصل.. كيف تكتب؟
لا أعرف بالضبط كيف يمكن الإجابة عن هذا السؤال؛ يحدث أني أكتب، يحدث أنه تخطر في بالي طوال الوقت روايات وشخصيات ومواقف، ويحدث كذلك أن تلح عليّ أسئلة ضخمة لا أجد لها إجابة ولا مدخلا فتأخذ شكل الحكاية، تعرف بطبيعة الحال عبارة باختين "نبدأ في السرد حين نعجز عن التنظير".. ولكني أحب أن أفكر معك بصوت عال، وأشاركك بعض ما عرفته وأنا أحاول كتابة الروايات.
اكتشفت أنه يكاد يستحيل أن تطلق أي أحكام، كل الشخصيات لها منطق ما خاص بها، حتى ولو كان غير مفهوم بالنسبة لغيرها - الروائي الرحيم بحسب تعبير أورهان باموق. أظن أن الغربة في كتابة رواية هي رغبة في تحدي النسيان؛ ترك أثر أننا جئنا إلى هذا المكان وعشنا فترة من الوقت وكانت لنا حكاياتنا، كأننا نخاطبُ العالم من خلال رواياتنا؛ لقد كنا هنا، وكانت لنا هذه الملامح، فلا تنسونا حتى وإن صرنا إلى الغياب.
واحدة من إشكاليات «بليغ» مثلا كانت أن الراوي مواليد 1990؛ قمتُ بكتابة قاموس للمفردات التي يستعملها أبناء هذا العمر في الكلام اليومي أو الفيسبوك مثلا، وحرصت أن أحتفظ في كل فقرة بكلمة أو اثنتين من هذه الكلمات - والتي قد لا تكون مفهومة بعد فترة ما - لأنها شهادة على لغة محكية ومفردات كانت موجودة في زمان ما - بلزاك فعل ذلك في «الكوميديا الإنسانية»، وبروست في ملحمته «البحث عن الزمن المفقود» - حتى أنك تجد في المكتبات الفرنسية قاموسا خاصة للغة الرواية.
أظن أن هذا جانبا كبيرا من دور الرواية - ألا يغمرنا ولا يغمر كلامنا النسيان.
في مشروعك لكتابة "رواية السيرة" طرح البعض مقارنة محتملة مع روايات كاتب مخضرم بحجم صنع الله إبراهيم فيما يخص الاعتماد على الوثائق والأرشيف وتضمينها في بنية السرد الروائي.. ما رأيك في هذا الطرح؟
صنع الله إبراهيم اسم مهم - ربما ليس في رواية السيرة كما أفهمها - ولكن في الرواية التي تتكئ على التاريخ، وعلى الوثائق لصناعة عالمها الروائي. فعل ذلك باقتدار في «ذات»، وفعله بطريقة أخرى في «العمامة والقبعة». المسألة في رواية السيرة - أو الرواية التاريخية عموما - أنها اختبار كبير لرؤيتك أنت ولحرفتك في تقديم الشخصيات؛ لأن الحكاية الأصلية موجودة والشخصيات معروف سلفا ما فعلت. هنا لا يتبقى لك من دورك في الخلق إلا عرض رؤيتك أنت الشخصية، ثم مهارتك في تصوير حركة الشخصيات.. إنها رقصة طموحة في مكان بالغ الضيق.
مَن مِن الكتاب يمثل لك "أيقونة روائية" لا تتكرر؟
يظل نجيب محفوظ في كل وقت وفي كل حين - نصا وشخصا - صورة معلقة أمام مكتبي؛ كيف يمكن استغلال الوقت وكيف يمكن تطوير الموهبة بالدأب والقراءة والاستماع للناس لصناعة شيء عظيم. ثمة آباء كبار آخرون، ديستوفيسكي وبلزاك وفلوبير. أنا مغرم بأورهان باموق مثلا - كيف يمكن أن يكون الروائي ملخصا مفيدا لزمنه ومكانه. يكفي أن تقرأ "باموق" لتفهم تركيا وتشعر باسطنبول. هذا هو طموحي الكبير الآن!
aXA6IDMuMTQyLjEzMy4yMTAg جزيرة ام اند امز