حرص الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون على إنهاء مهمته في المنظمة الدولية بجولة واسعة في الشرق الأوسط
حرص الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون على إنهاء مهمته في المنظمة الدولية بجولة واسعة في الشرق الأوسط، كان لبنان إحدى محطاتها. واستغل رئيس مجلس النواب نبيه بري هذه المناسبة ليحضّ الأمين العام على ضرورة ترسيم الحدود البحرية للمنطقة الاقتصادية مع إسرائيل. علماً أن الإدارة الأميركية كانت اعترفت في التقرير الذي رفعه الخبير هوف بمساحة 580 كلم، في حين يؤكد جيولوجيون محترفون أن المساحة تتعدى 800 كلم.
وجاء طلب رئيس المجلس استطراداً لمحاولات بذلها بري مع مساعد وزير الخارجية الأميركية أموس هولشتاين، أثناء زيارته لبنان. والسبب - كما فسره بعض نواب الجنوب - يعود إلى حاجة الدولة اللبنانية إلى ضرورة استثمار اكتشاف احتياطات غازية ونفطية في المياه الإقليمية، خصوصاً بعدما قفز الدّين العام إلى أكثر من سبعين بليون دولار، في وقت يتوقع المصرفيون هبوط المداخيل الخارجية من سبعة بلايين في السنة إلى خمسة بلايين.
أما السبب الآخر، فيتعلق باحتمال سحب إسرائيل الغاز من الحقول اللبنانية من طريق الحفر الأفقي. ومعنى هذا أن كل تأخير في عملية الاستثمار سيخفض إنتاج الحقول اللبنانية في المستقبل. إضافة إلى رغبة إسرائيل في احتكار الاكتشافات المشتركة بين فلسطين وإسرائيل ولبنان وسورية وتركيا وقبرص.
عام 2000، اكتشفت شركة «اتحاد المقاولين» (سي سي سي) حقلاً غازياً أطلقت عليه اسم «غزة مارين». ويضم الحقل احتياطاً يقدَّر بترليون قدم مكعبة من الغاز، ويقع على بُعد ثلاثين كيلومتراً غرب ساحل غزة. لكن إسرائيل أصرت على إغلاق الحقل، مدعية أن «حماس» ستستثمر هذا المصدر لزيادة «إرهابها»، وتحويل جزء من الريع لتغذية صندوق المساعدات لفلسطين.
يقول المطلعون على محادثات الأمين العام في لبنان أنه لفت انتباه المسؤولين إلى ضرورة استئناف ترسيم الحدود مع سورية من الجهتين الشمالية والشرقية. وربما دفعه إلى إثارة هذا الموضوع القديم اقتراح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أهمية إنشاء فيديرالية في سورية بهدف حل المشاكل المتأتية عن تركيبة المجتمع الإثني والطائفي. وهي تركيبة غنية بالتناقضات يمكن أن تساعد الفيديرالية على صهر العلوي والكردي والمسيحي والسنّي والأرمني والآشوري والكلداني والدرزي في بوتقة واحدة.
المهم أن الدولة اللبنانية كانت حريصة على ترسيم الحدود مع سورية، الأمر الذي شجع مديرية الشؤون الجغرافية على مفاتحة دمشق بهذا الموضوع. وأوكلت وزارة الدفاع المهمة إلى المقدم يوسف البيطار، والمهندس أمين عبدالملك، رئيس مصلحة المساحة، والمهندس ألبير متى، عن مديرية الشؤون الجغرافية.
بينما تشكل الوفد السوري على النحو الآتي: المهندس أحمد عبارة، مدير عام المصالح العقارية، والعقيد الركن عبدالودود السباعي، والمهندس عبدالحكيم عباس، مدير المساحة. واستند الجانب اللبناني في خرائط المساحة إلى الخرائط الرسمية الأولى التي وضعها مهندس فرنسي يدعى درافور. وكانت تلك الخرائط تشير إلى تداخل في الحدود من الجهتين.
يُستدَل من ملاحظة بان كي مون حول ضرورة ترسيم الحدود اللبنانية مع سورية، على إيمانه بأن المنطقة مقبلة على مرحلة ستُصاغ فيها حدود جديدة لبلدان جديدة. وهو مقتنع أيضاً بأن سورية ستتعرض للتفكك، وإعادة تشكيل المناطق على نحو يشبه إعادة ترسيم المنطقة عقب انهيار الإمبراطورية العثمانية.
الرئيس بشّار الأسد يعلم أهمية السيطرة التي تفرضها قواته على أرض الواقع. وهذا ما ساعد الرئيس الروسي بوتين على تأمينه، خصوصاً أن استعادة مدينة تدمر ستوفر لموسكو مادة تفاوضية ثمينة يمكن توظيفها في أوكرانيا.
مصادر مطلعة أطلقت الأسبوع الماضي خبراً مثيراً يتعلق بالاجتماع الذي عقده الوزير الأميركي جون كيري مع الرئيس بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف. ومع أن موسكو تكتمت على تفاصيل اللقاء، إلا أن مؤشرات كثيرة توقعت الاتفاق على ترحيل بشار الأسد إلى إيران، مع الاختلاف على تحديد ساعة الصفر.
الصحف الفرنسية شككت في مهمة كيري لاقتناعها بأن نشاط الرئيس باراك أوباما ابتعد من أزمات الشرق الأوسط. وذكر بعضها أن هذا القرار اتخذ في أيلول (سبتمبر) 2013. أي حين انسحب أوباما من الخطوط الحمر التي وضعها البيت الأبيض حول استخدام السلاح الكيماوي. يومذاك تعهد الرئيس الأميركي ضرب القوات السورية النظامية في حال ثبت أن الأسد سمَّم آلاف المواطنين بالغاز. لكن أوباما تراجع عن هذا التعهد مقابل الموافقة السورية - الروسية على إخراج هذا السلاح من التداول.
سفير إسرائيل السابق في واشنطن مايكل أورن ادعى في كتاب نشره الصيف الماضي أن فكرة إخراج السلاح الكيماوي من سورية مقابل امتناع واشنطن عن قصف قوات الأسد كانت فكرة إسرائيلية. وتقدم حينذاك بهذه المبادرة الوزير يوفال شتاينبتس!
تقول صحف بريطانية أن الاتفاق الأميركي - الروسي على ترحيل الأسد لم يعد ملزماً بعد استعادة تدمر بواسطة قواته ومساندة الطيران الروسي. وقوبل هذا الحدث بفرح عارم عبَّرت عنه شخصيات سياسية وثقافية في طليعتها عمدة لندن بوريس جونسون.
حقيقة الأمر أن تدمير الآثار والكنوز التاريخية على أيدي جماعة «داعش» كان الحافز الذي شجع الأسد على استردادها، ولو دفع الثمن غالياً من قواته النظامية. كما أن موقعها الاستراتيجي المميز شجع الروس على تكثيف غاراتهم الجوية.
يدل موقع تدمر الجغرافي على قيمتها التاريخية، كونها في وسط البلاد. وقد بنيت كمحور مركزي بين دمشق ودير الزور حيث يسهل الاتصال بالعراق. ويفترض العسكريون أن خطوة الأسد المقبلة ستركز على الوصول إلى دير الزور بغرض استعادة السيطرة على معابر الحدود مع العراق.
في الوقت ذاته، قد يدفع الأسد بقواته لاسترداد مدينة الرقة التي اتخذها الخليفة أبو بكر البغدادي عاصمة له. هذا، مع العلم أن «داعش» سيكون محاصراً من ثلاث جهات: من الشمال الشرقي على طول الحدود مع تركيا... ومن الغرب حيث ينتشر الجيش السوري... ومن الشرق حيث يوجد الجيش العراقي الذي يصعّد هجماته على الموصل.
يقول المراقبون أن انتصار الأسد في تدمر منحه قوة معنوية إضافية. كل هذا بعد تثبيت حكمه في دمشق وقاطع الشاطئ العلوي. وهو في هذه الحال مضطر لاستعادة السيطرة على جنوب البلاد، قرب الحدود مع الأردن. وهو المكان الذي انطلقت منه الثورة قبل خمس سنوات.
ويرى المراقبون أن «داعش» يفقد سلطته في العراق وسورية، بعدما قرر توسيع شبكاته الخارجية في ليبيا وتونس وباريس وبروكسيل. وفي مطلع السنة الماضية طُرِدَ هذا التنظيم من عين العرب (كوباني) المدينة الحدودية مع تركيا بواسطة وحدات حماية الشعب الكردي.
وفي آذار (مارس) من السنة الماضية، استعادت القوات العراقية مدينة تكريت. وشاركت طهران وواشنطن في استعادة هذه المدينة الكبرى المأهولة بغالبية من السنّة في محافظة صلاح الدين.
في تشرين الثاني (نوفمبر) من السنة ذاتها، استعادت القوات الكردية سنجار، لتقطع بهذا الانتصار العسكري طريقاً استراتيجياً كان «داعش» يستخدمه للتحرك بين العراق وسورية. وفي هذا الموقع، ارتكب التنظيم فظائع همجية بحق الأقلية الإيزيدية.
آخر السنة الماضية، استعادت القوات العراقية مدينة الرمادي على مسافة مئة كلم غرب بغداد. وفي 24 الشهر الماضي، دخل الجيش السوري مدينة تدمر الأثرية. لكن هذا الدخول المفاجئ أثار الكثير من التساؤلات حول التجاهل المتعمد الذي قابل به النظام احتلال «لؤلؤة البادية» على أيدي مقاتلي «داعش». ففي أيار (مايو) من السنة الماضية قامت قوات الأسد بالانسحاب من تدمر قبل ساعات من وصول جحافل البغدادي. ومع أن الطريق المؤدي إلى القلعة كان مكشوفاً أمام طائرات النظام، إلا أن الأسد لم يأمر بتحريك سلاح الجو، وإنما اكتفى بنقل المعتقلين إلى سجون أخرى في دمشق.
عقب سيطرة «داعش» على القلعة والمدينة المحيطة بها، أمر بقطع رأس مدير الآثار في المدينة خالد الأسعد (82 سنة) الذي شغل هذا المنصب طيلة خمسين سنة. وبعد أسبوع، قام بتدمير المعابد والتماثيل.
تفسر المعارضة السورية تلكؤ الأسد عن ضرب قوات «داعش» وهي في الطريق الصحراوي إلى تدمر بأنه قرار سياسي لمنع الصحافيين والمصورين من الدخول إلى سجن تدمر. والسبب أنه استقبل في عهد حافظ الأسد آلاف المعتقلين من جماعة «الإخوان المسلمين» وغيرهم. وقد نشرت منظمات حقوق الإنسان عشرات الكتب عن هذا المعتقل الذي شهد سبع مذابح. وكان بين الأسرى سوريون ولبنانيون (600 شخص) وفلسطينيون وأردنيون. وبعد تحرير تدمر، يمكن أن يدّعي النظام بأن «داعش» كان مسؤولاً عن كل الارتكابات والمظالم.
من مراجعة حقبة تزيد على ستين سنة، تطل خمس سنوات من عهد بشّار الأسد فقدت فيها سورية أكثر من 300 ألف قتيل، وهجرت الحرب الأهلية أكثر من سبعة ملايين نسمة. والمطلوب من الدول المحايدة 200 بليون دولار بغرض ترميم المدن المدمَّرة.
وعلى رغم كل هذه الحرب العبثية، يسعى بشار الأسد إلى تعزيز موقفه التفاوضي لأنه استرد «لؤلؤة البادية» بعد أن تخلى عنها لخصمه أبو بكر البغدادي!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة