خبراء لـ"العين": هنا مليارات مصر الضائعة
الاقتصاد غير الرسمي بلغ حجمه 2.2 تريليون جنيه ويضيع على خزينة الدولة ضرائب قيمتها 330 مليار جنيه.
الاقتصاد السري أو غير الرسمي، أو ما يطلق عليه شعبيًّا في مصر "اقتصاد بير السلم"، أكبر الملفات استنفاذًا لرأس المال الحكومي في مصر وأكثرها تعقيدًا، بعد فشل محاولات الحكومة في إخضاعه لسياساتها الضريبية نظرًا لقلة المعلومات عنه وانتشاره الكبير في الآونة الأخيرة.
ويمثل الاقتصاد الخفي بمصر 60% من حجم عمليات البيع والشراء بالسوق المصرية -بحسب تصريحات منسوبة لمسؤولي مصلحة الضرائب في مصر- مع الوضع في الاعتبار تفاقم الظاهرة مع مرور الوقت واتساع المسافة بين الرقابة الحكومية والمتهربين من الضرائب، وهو ما حذر منه الخبراء قائلين إنه بمرور السنوات سيصبح الاقتصاد الرسمي في مصر على هامش عمليات البيع والشراء غير المقننة، وسيصبح "اقتصاد بير السلم" هو المسيطر.
في القاهرة.. كل ما يمكنك تخيله مباح للبيع على أرصفة الطرقات، بما في ذلك المنتجات الغذائية والأجهزة الكهربائية خفيفة الوزن، وكلها عمليات تجارية غير خاضعة للمنظومة الاقتصادية للدولة المصرية ولا تدخل في الحسابات القومية للناتج المحلي، بالإضافة إلى استغلال مساحات كبيرة من الشوارع والميادين المملوكة للمارة.
آخر الدراسات لرصد قيمة الاقتصاد غير الرسمي للدولة أعدها اتحاد الصناعات المصري في مارس من العام الماضي أوضحت أن حجمه بالسوق بلغ 2.2 تريليون جنيه مصري؛ أي ما يضيع على خزينة الدولة ضرائب قيمتها 330 مليار جنيه سنوي، كما كشفت الدراسة عن وجود 47 ألف مصنع غير مقيد بالسجلات الصناعية، بالإضافة إلى 1200 سوق عشوائية في مصر لا تخضع للرقابة الحكومية.
الظاهرة الأكثر ضررًا على الاقتصاد المصري دفعت النائب البرلماني المستقل حمدي بخيت للمطالبة بفرض رسوم على الباعة الجائلين، وهو ما اعتبره البعض أغرب طلب برلماني يتقدم به نائب، نظرًا لعدم حصر أعداد الباعة وأماكنهم غير الثابتة، فضلًا عن دخولهم في حيز فئات محدودي الدخل.
"بخيت" مبررًا لمطالبه البرلمانية قال لـ"العين": لا يوجد بائع في الخارج لا يدفع ضرائب؛ لأن إدارة البلاد لا تكون بالعواطف، ويجب أن تكون هناك ضرائب تصاعدية بشكل عام، وأن تفرض الجمارك على جميع الواردات، لنتخطى هذه الأزمة، ونتفادى الاقتراض، كما طالب وزير المالية المصري بالبحث عن بدائل منطقية لسد عجز الموازنة.
على رصيف أحد شوارع القاهرة اقتطع "سمير" مساحة مخصصة لعبور المارة مفترشًا بضائعه التي تنوعت بين الأحذية والمنتجات الجلدية، في غفلة من الأمن المكلف بتيسير حركة المارة في الشارع، وباشر الشاب تجارته لمدة تزيد عن سنة ونصف، قال إنه تعرض خلالها للطرد من المكان 3 مرات فقط أثناء حملات أمنية، ولكنه سرعان ما يعاود إلى "مكان أكل عيشه" كما وصف سمير.
"العين" سألت الشاب عن مصدر بضائعه، فقال إنها بضائع صينية المنشأ، رخيصة الثمن، يوردها لنا تاجر كبير -رفض الإفصاح عنه-، وعن احتمالية دخول هذه البضائع عن طريق التهريب، قال إنه لا يعلم لكن كل شيء وارد.
وبرر تاجر الشارع المحترف انتشار ظاهرة البيع والشراء غير المقنن بزيادة أعداد البطالة في مصر، وارتفاع سعر استئجار المحلات، فضلًا عن أن البيع في الشارع "زبائنه أكثر" لأن البضائع أرخص.
الخبير المالي إيهاب الدسوقي رئيس قسم الاقتصاد بأكاديمية السادات للعلوم الإدارية، في تحليله للظاهرة، قال إن حجم هذا الاقتصاد في مصر قد يصل إلى 70% من الناتج المحلي، أي أكثر من القيمة التي تلمح لها المصادر الرسمية في مصر، ولا يتوقف خطره على الاقتصاد فقط وإنما تتعدى آثاره إلى الصحة العامة للمواطنين لعدم مطابقته للمواصفات فيما يخص السلع الغذائية.
وأضاف الدسوقي لـ"العين" أن عدم تحصيل ضرائب من هؤلاء التجار هو استنزاف بطيء للخزانة العامة للدولة المصرية مع تزايد وانتشار الظاهرة في ظل رقابة حكومية شبه منعدمة.
وعن الحلول للقضاء على "الاقتصاد الخفي" أفاد بأن تسجيل هؤلاء الصناع والباعة ضمن السجلات التجارية لدى الحكومة وتهيئة أماكن لهم بعيدًا عن الشوارع العامة ومنح بطاقات ضريبية لهم، يمثل الخلاص من الإشكالية وتحصيل مليارات ضائعة من الجنيهات، إذا ما تم حصر عدد هؤلاء التجار على مستوى جمهورية مصر وليس القاهرة فقط.
وعن عمليات التهريب، قال الخبير الاقتصادي إنه لا يمثل أزمة كبيرة كالتي نتحدث عنها؛ فالتهريب هو استثناء تحاول الدولة محاربته، وهي ظاهرة مشتركة موجودة بكل الدول، وإن كانت آثارها في مصر أشد خطورة بسبب الأزمة الاقتصادية.
على النقيض يرى "علاء سماحة" مستشار وزير المالية السابق، أن معظم البضائع المنتشرة في السوق والمتداولة في عمليات البيع غير المقننة، تدخل البلاد بطرق غير شرعية عن طريق التهريب بدون رسوم وارد، فالمنظومة واحدة بداية من التهريب أو التصنيع الخفي وحتى تداول المنتجات، وقال "سماحة" إن حجم هذا الاقتصاد غير معلن رسميًّا من الدولة ولكنه مقدر ما بين 60 إلى 70% من الاقتصاد الكلي لمصر، أي ما يقدر بمئات المليارات.
واقترح سماحة في تصريحات لـ"العين" وضع تشريعات مبسطة واستثنائية لهذه الفئات بحيث تخضع لضريبة خاصة -مقدرة بتوقيت ما- غير التي تفرض على الشركات والمؤسسات التجارية، إلى حين وضعه في الإطار الصحيح وانخراطه في المنظومة العامة، ومن هنا سيبدأ في استيعاب عدد أكثر من العمالة والتمتع بكل مميزات التامين الصحي والاجتماعي، فضلًا عن إخضاع منتجاته لمواصفات الجودة.
وكشف سماحة عن أن هؤلاء الباعة يخافون من أي علاقة أو رابط يجمعهم بالحكومة المصرية، نظرًا لعدم الثقة المتبادل بين الطرفين، ومن هنا يأتي دور الدولة لبسط يديها إليهم أولًا، والمبادرة بسن تشريع يضمن حقوقهم وحقها في الوقت نفسه، كما استحسن مستشار وزير المالية السابق ظهور نقابات ومؤسسات تتحدث باسمهم وهي بادرة جيدة لتقنين أوضاعهم.