ثمة رائحة كريهة تنبعث في أرجاء العاصمة اللبنانية بيروت.
ثمة رائحة كريهة تنبعث في أرجاء العاصمة اللبنانية بيروت.
ليس في ما ورد هنا أي استعارة.
فالجميع في بيروت يشمها، والجميع يحاول أن يتوقع مصدرها، هل هي النفايات المتراكمة منذ ما يقارب السنة في محيط المدينة وقد اختمرت في هذا الطقس المشمس وراحت تبعث غازاتها، أم أن مصدرها المرفأ حيث من المحتمل أن تكون قد رست باخرة تنقل المواشي.
لا شيء في بيروت هذه الأيام سوى هذه الرائحة، وأحياناً يُطل علينا بيار الحشاش بواحدة من مآثره الوطنية فينسينا الرائحة لدقائق ثم تعود الأخيرة لتحتل موقعها في وعينا كحقيقة وحيدة في هذا البلد المُطفأ والذاوي.
لبنان اليوم أقل من أن يكون مسرحاً لحدث، والرائحة المتفشية في أرجاء عاصمته ليست حدثاً إنما هي جزء من طبيعة الأشياء ومن خمودها وموتها.
والعجز عن إحداث واقعة وعن تغيير مسارٍ هو امتداد لموت راح يُمعن في الفتك بكل شيء.
ولا وظيفة لبلدنا اليوم سوى هذا الموت السريري، والموت لا يمكن أن يكون انتظارياً أو موقتاً، بل هو أبدي ونهائي.
وقائع كبرى عجزت عن أن تتحول حدثاً في ظل هذا الموت. كشف شبكة هائلة للإتجار بالبشر ليس حدثاً حياً، ذاك أننا جثة سياسية واجتماعية وأخلاقية، ومَن هذه حاله لا تهزه حقيقة أنه حاضنة لسقطات أخلاقية من هذا النوع.
ثمة شيء مُفجع فعلاً في أن تعجز عاصمة بلد عن تفسير رائحة متفشية ومنبعثة في أرجائها! ما هي هذه الرائحة؟ من أين تأتي؟ وهل يعقل أن تعجز الحكومة والبلدية والأجهزة الأمنية عن تحديد مصدرها؟ الأمر لا يتعلق بالرغبة في الحد منها، فهذا طموح غير واقعي، بل بمعرفة طبيعة هذه الرائحة وسبب انبعاثها.
صحيح أنها رائحة كريهة، إنما يمكن لأهل بيروت أن يتعايشوا معها في حال تم تحديد مصدرها.
هذا العجز هو جزء من عجز هائل راح يصيب كل شيء في لبنان. عجز عن انتخاب رئيس للجمهورية، وعجز عن منع «حزب الله» من القتال في سورية، وعجز عن جمع النفايات وعن ضبط الحدود.
وبهذا المعنى، يجب أن نكفّ عن تسمية لبنان بلداً، فشروط الحد الأدنى لهذه التسمية غير متوافرة فيه.
الرئيس والحدود والقدرة على جمع النفايات، هذه كلها غير متاحة للبنان، وما هو متاح له لا يزيد عن تظاهرة من خمسة أشخاص يقودها ممثل وطنيتنا الصفيقة بيار الحشاش يقدم فيها على تخريب مكاتب صحيفة وعلى وصف اللاجئين السوريين بأقذع العبارات عنصرية وابتذالاً ورثاثة.
وهناك أيضاً شيء آخر متاح في هذا البلد السابق، هو أن يُقدم مواطنون منه على خطف بشر وإجبارهم على ممارسة الدعارة. هذا حدث يجب أن لا ننساه، وإلا كنا غير عادلين بحق بلدنا الذي هو موطن بيار الحشاش.
وبهذا المعنى نحن أمام عناصر مواطنة تتراوح بين التفاهة والجريمة، وهذا لا يصنع بلداً، وإن كان يُنشئ «أمة».
والحال أن التفاهة بدأت تظهر على كل شيء في لبنان هذه الأيام، وليس على سياسييه وحكومته ونفاياته فقط.
التفاهة بدأت تمتد إلى التاريخ أيضاً، ذاك أننا من هذه المسافة الزمنية المفعمة بهذه الرائحة الغامضة نستقبل هذه الأيام الذكرى الـ41 للحرب الأهلية اللبنانية، وبالأمس انتبه أحدنا إلى أن حربنا أيضاً كانت حرباً تافهة، وهي كذلك على رغم عنفها وامتدادها لما يقارب العشرين سنة، فحرب بهذا العنف وممتدة لكل هذه الفترة الزمنية لم تحقق شيئاً يُذكر، ولم تُشكل درساً ولا وعياً مختلفاً ولا ثقافة وحساسية لتفادي الحروب، هي حرب مأسوية من دون شك، لكنها حرب تافهة أيضاً على نحو تفاهة جنودها وقادتها.
لم يعد لبنان بلداً، فهل تذكرون الرغبة بالاستعاضة عن البلد بـ «ساحة».
كانت «العروبة» في حينها ساعية إلى هذه المهمة، وقد أنجزت على ما يبدو جزءاً منها.
فلبنان اليوم ساحة بالمعنى الحرفي للكلمة. لا حدود للساحة ولا رئيس ولا أهل يمكنهم أن يتوافقوا على جمع النفايات.
ومهمة تحويل البلد ساحة شهدت خطوة أخيرة قبل سنوات قليلة أكملت مشهد التحول.
فُتحت الحدود للقتال في سورية، واقتضت الخطوة فراغاً في رئاسة الجمهورية، واستمراراً لعمل حكومة ميتة وعاجزة، وتأجيلاً لكل الاستحقاقات بانتظار إنجاز المهمة خلف الحدود، مع ما قد يعني إنجاز هذه المهمة من احتمالات إلغاء للبنان ولفكرته وتجربته.
لكن حال الانتظار قاتلة، ورائحة بيروت وحدها ما يملأ الفراغ الناجم عنها.
ثم إن دولاً لا يمكن أن تبقى في وضع انتظاري من دون أن يزحف الموت إلى أرجائها.
فلبنان الذي ينتظر عودة «حزب الله» من مهمته في سورية لكي ينتخب رئيساً ويشكل حكومة، ولكي يعيد ضبط الحدود وجمع النفايات، لبنان هذا، سيأكله العفن قبل أن يعود الحزب من سورية، ذاك أن الحرب هناك طويلة ومديدة ولا يبدو أن ثمة منتصراً فيها حتى الآن.
صحيح أننا أثناء انتظارنا عودة الحزب الميمونة من سورية، قد نتعايش مع الرائحة بعد أن تكون قد تفشت في أرواحنا وأمزجتنا، لكن من يضمن بقاءنا على قيد الحياة، فالرائحة أشبه بغاز يكاد يُلمس لشدة قوته في بعض مناطق العاصمة.
ربما في الصورة الأخيرة استعارة لا تشبه واقعية تفشي الرائحة الكريهة في عاصمتنا الكبرى بيروت، لكن الاستعارة تقترب من الواقع حين نكتشف أن الزمن لن ينتظرنا لكي نعود من نزوتنا في سورية. فنهاية الحرب هناك قد تكون نهاية لبلدنا أيضاً، طالما أننا لا نملك حساسية كافية لتقدير معنى أن تفتح حدودك على حرب مشتعلة وعلى احتمالاتها. وقد يسبق الانهيار الأخير هنا نهاية الحرب هناك، فأسباب البقاء، بقاء لبنان، تنضب يوماً بعد يوم، وربما نموت ميتة تافهة من نوع الاختناق بغاز غامض.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة