معظم جوائز الصحافة الأوروبية لهذا العام، ذهب إلى تحقيقات ومقالات وتقارير حول أحداث تهم العالم العربي وأفريقيا
معظم جوائز الصحافة الأوروبية لهذا العام، ذهب إلى تحقيقات ومقالات وتقارير حول أحداث تهم العالم العربي وأفريقيا. فقد تبدأ القصة في لندن أو لشبونة، وقد تنتهي في أي مكان من العالم، لكنها وثيقة الصلة بما يجري في بلداننا من حروب وصراعات.
جائزة الإبداع الأولى ذهبت إلى ثلاثة صحافيين يعملون في جريدة «إكسبرسو» البرتغالية، وهم راكيل موليرو وهيوغو فرانكو وجوانا بليزا، الذين تتبعوا خطى خمسة برتغاليين جاؤوا إلى لندن للعمل، لكنهم تحولوا إلى «مجاهدين» بعدما ترددوا على مساجد العاصمة البريطانية خلال 2012 و2013، ليغادروا بعدها صوب سورية «للجهاد».
ويتتبّع التحقيق المفصّل، الذي حمل عنوان «القتل والموت في سبيل الله»، خطوات الشبان المسلمين الخمسة، إدغار وسلسو (شقيقين) وفابيو وباتريشو وساندرو الذين لم يعرفوا التديّن عندما كانوا في البرتغال، إذ كانوا قد درسوا في مدارس كاثوليكية في لشبونة، وعندما جاؤوا إلى لندن أخذوا يترددون على مقهى برتغالي في منطقة «ليتون» شرق لندن للسمر ومشاهدة المباريات الرياضية التي تُبث في المقهى، وكانت تصرفاتهم طبيعية وكانوا مندمجين مع الثقافة العامة، وفق مدير المقهى ألبانو براس، والاختلاف الوحيد عن رواد المقهى الآخرين هو أنهم لم يتعاطوا المشروبات الكحولية.
وتضمّن التقرير الفائز مقابلة فيديوية مع مدير المقهى وفيلماً وصفياً، عرض كلاهما على موقع الصحيفة الإلكتروني لتوضيح مجريات الحياة التي عاشها البرتغاليون الخمسة في لندن، وكيف تحولوا إلى الإسلام ثم انجرفوا إلى الإرهاب. وسبب الانجراف، وفق التقرير، هو «معارضتهم السياسات الغربية ضد المسلمين، التي فهموها في لندن ولم يفهموها في لشبونة»! في سورية، حارب الشبان الخمسة في صفوف «تنظيم الدولة»: فابيو وسلسو كمقاتليْن في الرقة وحلب، باتريشو انتقل من صفوف المقاتلين إلى صفوف القادة، أما إدغار فاختفى وأصبح «شبحاً».
جائزة أفضل تحقيق صحافي ذهبت إلى صحافية فرنسية شابة تدعى ماريون كيلارد، عن تقرير نُشر في صحيفة «ريفو 21» الفرنسية تحت عنوان «على المغتصَبات أن يرفعن أيديهن»، وكان حول ضحايا الاغتصاب في الكونغو التي صنّفتها الأمم المتحدة عام 2010، بأنها «عاصمة الاغتصاب في العالم»! ويكشف التحقيق المفصل أن المنظمات العالمية العاملة في المنطقة تلقت تبرعات بملايين الدولارات، لكن الأموال لم تذهب إلى ضحايا الاغتصاب، بل أنفقت في مجالات بعيدة من القضايا التي خصّصت لها.
لقد خاطرت ماريون بحياتها، وذهبت إلى منطقة كيفو في الكونغو التي قيل إن واحدة بين كل 11 امرأة فيها تتعرّض للاغتصاب. انطلقت من رواندا عبر جسر نهر الروزيزي، الذي يفصل بين الكونغو ورواندا، وهو الجسر نفسه الذي عبره اللاجئون الهوتو عام 1994، هرباً من حرب الإبادة الجماعية التي شنّتها عليهم حكومة التوتسي. التقت ماريون بمنظمات الدفاع عن المرأة، وزارت المستشفيات، وتحدثت مع الأطباء، واطلعت على سجلات العلاج لآلاف النساء اللائي تعرّضن للاغتصاب، وقد وجدت في سجلات أحد المستشفيات أسماء أكثر من 32 ألف امرأة عولجن بعد تعرّضهن للاغتصاب.
لكن ماريون اكتشفت أموراً أخرى أثناء التحقيق، وهي أن قصص اغتصاب عدة لم تكن حقيقية، بل كانت بدافع ابتزاز الأغنياء، وأن الاغتصاب يُستخدم سلاحاً في الصراعات الدائرة هناك وضحاياه يتعدون النساء إلى الرجال، إذ أخبرها أحدهم بأنه «يحسد المغتصبات لأنهن يتلقين رعاية لا يحلم بها الرجال المغتصَبون»! واكتشفت ماريون أن المنظمات الدولية لا تهتم بمساعدة الضحايا وعلاجهم بقدر ما تهتم بكيفية الحصول على المزيد من الأموال.
وذهبت الجائزة الخاصة إلى صحافييْن من النروج هما أندريز فيلبيرغ وتوم كريستيانسن، عن تحقيق نشرته صحيفة «داغبلادت» النروجية، تحت عنوان «الرجل في بذلة السباحة»، والذي تتبع قصة لاجئيْن ماتا غرقاً أثناء سعيهما للعبور إلى أوروبا، وكانا يرتديان بذلتي سباحة متماثلتين، وقد عُثر على جثة أحدهما في النروج وجثة الآخر في هولندا. وذكر التحقيق أن أجهزة الشرطة في ثلاث دول حققت في الموضوع، ولم تتمكن من اكتشاف هوية الغريقين، على رغم أنهما على الغالب جاءا من الشرق الأوسط هرباً من الحروب المستعرة هناك.
جائزة خاصة أخرى ذهبت إلى صحافييْن ألمانييْن هما أمراي كوهين وهنينغ سوسيباتش، عن تقرير نُشر في صحيفة «داي زيت» الألمانية تحت عنوان «في الأرض الموعودة»، عن قصة عائلة عراقية مهاجرة مكوّنة من خمسة أشخاص، أب وأم وأطفالهما الثلاثة، خاطروا بالسير على الأقدام في الطريق السريع متّجهين إلى أوروبا، التي وصفها التقرير بـ «الأرض الموعودة». جائزة خاصة ثالثة ذهبت إلى الصحافي الهولندي غيرت فان لانجندونك، عن تقرير نشر في صحيفة «أن آر سي» يتتبع رحلة مجموعة من اللاجئين السوريين إلى ألمانيا.
جائزة «الكتابة المتميزة» ذهبت إلى تقرير للصحافية البولندية جوستينا كوبينيسكا، نشرته صحيفة «جوزي فورمات» بعنوان «جناح مرضى الخوف». وقد نافسه على الموقع الأول تقرير «أسود سنجار» لجونثون ستوك، المنشور في صحيفة «دير شبيغل» الألمانية حول احتلال «داعش» مدينة سنجار العراقية ومعاملته القاسية لسكانها الأيزيديين، وتقرير للصحافي الألماني وولفغانغ باوير تحت عنوان «شارع الخوف» الذي نشرته صحيفة «داي زيت» الألمانية، ويروي قصة شارع في بغداد يفصل بين حيّين يقطنهما السنة والشيعة، وتحقيق للصحافية السويدية المصرية الأصل، ماجدة جاد، تناول حياً فقيراً في العاصمة الرومانية، بوخارست، يعتبر «الأخطر في العالم»، إذ انطلق منه كثر من السُرّاق في السويد. وكان مقال عن اللاجئين من سورية لأريك فراي نشرته صحيفة «دير ستاندارد» النمسوية، مرشحاً لجائزة «أفضل تعليق».
بعد كل هذه الجوائز العالمية التي مُنحت لتحقيقات وتقارير ومقالات عن قضايانا، يخرج المرء باستنتاج مفاده أن منطقتنا تحولت مجالاً لإبداع الصحافيين الأجانب، لكنه يتساءل في الوقت نفسه: أين صحافيونا؟ أليس هناك ما يمكنهم أن يبدعوا فيه في هذه المنطقة المليئة بالمشاكل والخلافات والصراعات والخفايا؟.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة