حين نقارن بين ما حققه الأوروبيون فى نهضتهم التى خرجوا بها من عصور الظلام وما حققناه نحن فى نهضتنا
حين نقارن بين ما حققه الأوروبيون فى نهضتهم التى خرجوا بها من عصور الظلام وما حققناه نحن فى نهضتنا التى لا نزال نحاول أن نخرج بها من تلك العصور نجد صورا من التوافق تكاد تصل إلى حد التطابق لأن مطالب البشر واحدة، كما نجد بالطبع صورا من التباين والاختلاف لأن ما ورثناه من ماضينا وما واجهناه ونواجهه فى حاضرنا يختلف عما ورثه الأوروبيون وواجهوه.
ومع ذلك فالتاريخ البشرى مسار واحد مشترك، عصور متعاقبة من الازدهار والانحطاط أو من التقدم والتراجع يلى بعضها بعضا.
فى الماضى كانت خبرة البشر محدودة بما يرونه فى أنفسهم وفى الطبيعة المحيطة بهم داخل النطاق الضيق الذى يعيشون فيه. وبناء على هذه الخبرة المحدودة فسروا التاريخ فوحدوا بين الزمن الطبيعى والزمن الإنساني، واعتقدوا من ثم أن عصور التاريخ تتوالى كما تتوالى مراحل العمر أو فصول العام، وأن المجتمعات والحضارات والدول تنشأ وتشب وتزدهر كما تزدهر الطبيعة فى الربيع والصيف، ثم تشيخ وتموت كما يحدث للإنسان فى نهاية العمر وكما يحدث للطبيعة فى الخريف والشتاء. وعلى هذا النحو فسر ابن خلدون نشأة الدول وسقوطها، فالدولة تنشأ بالعصبية أو بالملك الطبيعي، ثم تتحول إلى الملك السياسى الذى تستقر فيه الدولة ويزدهر العمران. لكن هذا الازدهار هو بداية التراخى والانحلال الذى ينتهى بسقوط الدولة لتحل محلها دولة أخرى فتية تمر بهذه المراحل المتوالية. فالتاريخ إذن دورات تتكرر، والماضى هو ربيع التاريخ وعصره الذهبي. وهو الفردوس المفقود الذى كان البشر يحلمون بالعودة إليه، ولايزال بعضهم يحاول أن يستعيده فى الحاضر كما يفعل السلفيون وجماعات الإسلام السياسى عندنا، وكما يفعل الرجعيون فى العالم كله.
الفاشيون الإيطاليون كانوا يحلمون بإعادة الامبراطورية الرومانية للحياة. والقوميون العرب فى الشام والعراق سموا النهضة بعثا، واطلقوا هذا الاسم على حزبهم لأنهم اعتبروا أن التاريخ عصور تموت وتبعث من جديد كما سوف يحدث لنا فى العالم الآخر. على حين سمى الأوروبيون نهضتهم «رنيسانس» renaissance أى ميلاد جديد، لأنهم اعتبروا التاريخ الإنسانى كله عمرا واحدا تتعاقب فيه العصور كما تتعاقب الأجيال ويولد بعضها من بعض وبهذا ينمو التاريخ ويتطور، أما عند السلفيين والبعثيين فالتاريخ دورة تتكرر دون أن يتغير التاريخ أو يتطور.
هذا التفسير الرجعى للتاريخ فرضته الظروف التى عاش فيها البشر فى العصور الماضية. فالحضارة الإنسانية فى بداياتها. والديانات متصارعة، والدول متحاربة، والمجتمعات منعزلة، وقدرة الإنسان على الإحاطة بالتجارب البشرية محدودة. ومن هنا ظلت المعرفة جزئية فلم تتكامل إلا فى العصور الحديثة التى وقف فيها العلماء والمفكرون من جديد يتساءلون وقد اتسعت معارفهم عن القوانين التى تحكم حركة التاريخ وتحدد مساره كما فعل الإنجليزى إدوار جيبون فى مؤلفه عن انحطاط الامبراطورية الرومانية وسقوطها، وكما فعل الفرنسى جيزو فى «تاريخ الحضارة فى أوروبا». وقد ترجم الكتابان إلى اللغة العربية، لأن السؤال المتعلق بنشأة الحضارة وازدهارها واضمحلالها، وهل صحيح أن التاريخ يدور حول نفسه أم أنه يتقدم إلى الأمام من عصر إلى عصر؟ وهل يرجع التاريخ القهقري؟ هذا السؤال بصيغه المختلفة كان مطروحا على المثقفين المصريين منذ بداية النهضة المصرية ولايزال مطروحا عليهم حتى الآن. ومن هنا اهتمامهم فى هذا العصر الحديث بالمؤلفات التى أجابت على هذا السؤال ومنها كتاب جيزو الذى ترجم بعد صدوره فى باريس فى أواسط القرن التاسع عشر وقرأه الإمام محمد عبده وحاضر فيه، ومنها بالطبع مقدمة ابن خلدون التى رجع إليها الطهطاوى ونشرها فى خمسينيات القرن التاسع عشر وكانت ضمن المؤلفات التى حاضر فيها الأستاذ الإمام فى «دار العلوم» واعتمد عليها فى بلورة أفكاره حول النهضة التى كان واحدا من زعمائها.
ومن الطبيعى وقد خرج البشر من ظلمات العصور الوسطى وانشأوا هذا العصر الحديث وقارنوا بين ما كانوا فيه وما صاروا عليه ـ من الطبيعى أن تكون إجابتهم على السؤال الآن مختلفة عن إجابة اسلافهم. فالتاريخ الإنسانى لا يكرر نفسه، وحركة التاريخ ليست دائرية إلا إذا فصلنا بعضه عن بعض ونظرنا إليه نظرة جزئية مرحلية، فان استعرضناه فى كل العصور ونظرنا إليه نظرة شاملة ككل لا يتجزأ فسوف نرى أنه يتفاعل ويتكامل ويتطور ويتقدم إلى الأمام كما هى الحالى فى أيامنا هذه التى تواصل فيها العالم حتى أصبح قرية واحدة وتواصلت فيها التجارب والخبرات والمعارف حتى أصبحت التواريخ القومية تاريخا واحدا مشتركا، ومن هنا وجوه الشبه بين نهضتنا ونهضة الأوروبيين.
لقد بدأت النهضة الأوروبية حين أتاحت الظروف للأوروبيين أن يخرجوا من عزلتهم التى فرضتها عليهم الكنيسة الكاثوليكية ويتصلوا بالعرب المسلمين فى ساحات القتال حين كان العرب فى عصر نهضتهم، ويتصلوا فى أسواق التجارة بشعوب الشرق الأقصي، ويتصلوا بعد ذلك بتراثهم اليونانى اللاتينى الذى انقطعت صلتهم به بعد أن اعتبرته الكنيسة تراثا وثنيا. وفى هذا الإطار ترجم الأوروبيون إلى اللاتينية علوم العرب وفلسفتهم ورحل ماركو بولو من مدينة البندقية ليعقد الصفقات مع تجار الشرق ويخدم امراء المغول ويتعلم لغتهم ويتحدث عما رآه فى رحلته هذه التى استمرت خمسة وثلاثين عاما عرف خلالها كل بلاد الشرق من فلسطين إلى الصين وفتح بها الطريق أمام الكشوف الكبرى التى غيرت وجه العالم ونقلته من عصر إلى عصر جديد. كريستوفر كولومبس الذى اكتشف أمريكا، وفاسكو دى جاما الذى اكتشف رأس الرجاء الصالح. هذه البداية تذكرنا بما حدث عندنا، فاكتشاف العالم المجهول خطوة مشتركة بين النهضة المصرية والنهضة الأوروبية.
لقد صحونا من نومنا الطويل نحن أيضا على طلقات مدافع بونابرت التى لم يصمد لها الأتراك والمماليك وصمدنا لها نحن وثرنا على الفرنسيين مرة ومرتين حتى اخرجناهم من بلادنا واخترنا محمد على حاكما وفرضناه على السلطان العثمانى ومن هنا بدأت النهضة، بدأت باكتشاف الطهطاوى لباريس فى كتابه الشهير «تخليص الابريز فى تلخيص باريز» واكتشاف محمد عياد الطنطاوى لروسيا فى كتابه «تحفة الأذكيا بأخبار روسيا»، واكتشاف أمين فكرى لأوروبا فى كتابه «ارشاد الألبا إلى محاسن أوروبا» وكما كانت الثقافة العربية الإسلامية هى البصيص الأول الذى أيقظ الأوروبيين وفتح لهم طريق النهضة، وكما كان ابن رشد هو دليلهم الذى عرفهم بأرسطو كانت الثقافة الأوروبية عامة والفرنسية خاصة هى القبس الذى أنار لنا طريقنا.
والسؤال الذى يلح علينا بشدة ويجب أن نطرحه ونجيب عليه هو: لماذا أكمل الأوروبيون الشوط وواصلوا التقدم حتى وصلوا إلى هذه العصور الحديثة ونكصنا نحن على اعقابنا وعدنا إلى عصور الظلام؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة