معرض بيروت للكتاب ينطلق .. عناوين الثورات تتراجع وفن الرواية باقٍ ويتمدد
ينطلق معرض بيروت للكتاب الجمعة، وهو من أعرق معارض الكتب في العالم العربي، ويشكل ومعرض القاهرة الذاكرة الأساسية لحركة النشر والطباعة.
يُفتتح اليوم (الجمعة) معرض بيروت العربي الدولي للكتاب في دورته التاسعة والخمسين. وهو من أعرق معارض الكتب في العالم العربي، ويشكّل مع معرض القاهرة الذاكرة الأساسية لحركة النشر والطباعة، فهذان المعرضان يرسمان عبر تاريخهما الطويل سيرة الكتاب العربي الحديث.
نزح معرض بيروت إلى أماكن عدة، قبل أن يستقر منذ سنوات في مركز "البيال"، عند الواجهة البحرية للعاصمة، بعيدًا عن الشوارع المزدحمة وصخبها، وهو البعد الذي أكسبه شيئًا من الوقار، إذ لا يأتيه ولا يعبر به سوى قاصديه وزائريه. ويشبه بذلك حاله حال الكتاب، المبتعد بدوره عن تناول العامة وحاجاتهم رغم احتفاظه بهيبته ووقاره، بوصفه نواة الثقافة ومصدرها.. حتى الآن.
تسعة وخمسون عامًا، هو عمر أعرق معارض الكتب العربية، وهو المنطلق مع ذروة تلك الحقبة التي شهدت ازدهار "القومية العربية" بتياراتها اليسارية والبعثية والناصرية، حيث شكّلت بيروت حينها البيئة المثالية والحاضنة للفوران الثقافي والفكري والأيديولوجي، وبوصفها المطبعة والمقهى والرصيف والصحيفة والقاعة الأكاديمية والمكتبة. وكان معرض الكتاب في بدايته هو التعبير عن هذا الازدهار، مستكملًا ذاك الإرث "النهضوي" والأدوار التي لعبتها كل من القاهرة وبيروت كعاصمتين لإنتاج وترويج الثقافة العربية ومأسستها.
لم يكن معرض الكتاب يومًا سوى مرآة للتحولات التي أصابت الثقافة العامة، فهو معرض كتب الشعر، حين كان الشعراء هم "الناطقون" باسم الثقافة العربية ومزاجها، وهو معرض الكتب الدينية والتراثية (ما بين الثمانينيات ومطلع التسعينيات) حين خيّمت الأصوليات على العالم العربي، وهو معرض كتب الطبخ والتنجيم (طوال التسعينيات ومطلع الألفية الثالثة) حين هربت العامة من إحباطاتها، متبرمة من لغات الثقافة المتخشبة وسياساتها، وهو معرض كتب المذكرات والسير الذاتية واليوميات، حين بدا أن التاريخ المعيش آخذ في الانصرام، وأن الحنين أمام المستقبل الغامض هو ملجأ كل قراءة. كانت تلك فترة "المراجعة" الكبرى إن صح التعبير. وهو في العقد الأخير معرض فن الرواية أولًا، التي هيمنت على المقروئية العربية واتخذت المكانة الاعتبارية والثقافية الأولى في مشهد النشر والطبع وسوق الكتاب، كما في مشهد الجوائز والتقدير.
هذا العام أيضًا يستأنف معرض الكتاب الحقبة الجديدة التي يمكن تسميتها بـ"صدمة الربيع العربي". تلك الثورات وحروبها فرضت سطوتها، بوصفها لحظة تاريخية متفجرة بالتغييرات والتحولات والأسئلة، بقدر ما فرضت نفسها كعناوين لكتب تبغي الرواج. لكن ميزة هذا العام، إنْ في البرنامج الثقافي المصاحب للمعرض أو في عناوين الكتب الجديدة، تخلو من حماسة السنوات الأولى وتفاؤلها، ويظهر منسوب الإحباط والحيرة أكثر.
"النادي الثقافي العربي" الذي ينظم المعرض بالتعاون مع "نقابة اتحاد الناشرين" في لبنان، أعلن في مؤتمرصحافي بمقر نقابة الصحافة، عن برنامج المعرض وموعده في الفترة الممتدة ما بين 27 تشرين الثاني/ نوفمبر، حتى 10 كانون الأول/ ديسمبر 2015.
رئيس "النادي الثقافي العربي" سميح البابا قال إن "الصحافة والثقافة دعامتان من دعائم لبنان لا غنى له عنهما.. ومن هذا المنطلق فإننا دأبنا على إقامة هذا المعرض سنويًّا دونما انقطاع وذلك لإيماننا بالدور المهم والرئيسي الذي تلعبه الثقافة في تاريخ الأمم والشعوب". وفي ديباجة لا تخلو من الرطانة الوعظية والأخلاقية اعتبر نبيل عبد الخالق، نائب رئيس نقابة اتحاد الناشرين في لبنان "أن الأمل ما زال قائمًا بمستقبل الكتاب العربي. نحن نرى أن ثورة التكنولوجيا أسهمت في تعميم المعرفة وفتح أبواب جديدة أمام الإنسان، لكننا نرى أيضًا أنّ العولمة يلزمها ضوابط ومراقبات، حفاظًا على الأمن الأخلاقي للجيل الجديد. وهذا ما يحققه الكتاب، إذ يمكن التحكم من خلاله بما يقرأ أبناؤنا". بدا تصريحه هذا صادمًا بعض الشيء، خصوصًا أن قائله يمثل الناشرين اللبنانيين، الذين لطالما غامروا بنشر الأفكار من غير تحفظ أو خوف، وعاندوا تلك "الضوابط" و"المراقبات"، فضلا عن رفضهم التقليدي لأي وصاية سياسية أو دينية تتذرع بـ"الأمن الأخلاقي" لخنق حرية الكتابة والتعبير والنشر. بدا تصريح عبد الخالق كأنه صادر عن ضابط رقابة لا عن ناشر.
في أي حال، يشترك بمعرض بيروت العربي الدولي للكتاب في دورته الحالية مئة وسبعون دار نشر لبنانية وسبعون دار نشر عربية، كما يشارك في المعرض ست دول عربية هي: المملكة العربية السعودية، دولة الكويت، الجمهورية الليبية، دولة فلسطين، سلطنة عمان، بالإضافة إلى البلد المضيف: لبنان. بالطبع تغيب سوريا، وإن حضرت بعض دور النشر السورية الخاصة. ومن الدول الأجنبية تشترك الصين بدار نشر رسمية واحدة، وتتمثل تركيا بثلاث دور نشر معروفة. هذا بالإضافة إلى اشتراك أربع جامعات لبنانية هي: جامعة البلمند- جامعة الكسليك- جامعة اللويزة- الجامعة اللبنانية، وذلك على مساحة تقدر بعشرة آلاف متر مربع.
دور النشر اللبنانية والعربية، خففت كثيرًا من الإصدارات التي تتصل بأحداث "الربيع العربي"، وعادت إلى التنافس على اقتناص الروايات الجديدة أو تبني الروائيين الجدد، فغلبت على العناوين الجديدة الكتب الروائية، فيما يشهد الشعر بعض الاهتمام مجددًا.
يتضمن برنامج نشاطات المعرض هذه السنة مجموعة متنوعة من المحاضرات والندوات في حقول الفكر والثقافة والتربية والتاريخ والأدب والسياسة والنقد الأدبي، فضلًا عن إقامة ندوات حول كتب صدرت حديثًا في حقول الرواية والشعر والتاريخ والدراسات المتنوعة، منها حلقة دراسية حول النشر في لبنان وندوة حول أزمة المطالعة في لبنان، أيضًا ينظمها النادي الثقافي العربي واللجنة الوطنية لـ"اليونسكو". كما نذكر ندوة حول كتاب "فسبكات" لأحمد بيضون، يشترك فيها جورج دورليان وحازم صاغية وكاتب هذه السطور.
ومن أبرز بنود البرنامج الثقافي حفلة فنية بعنوان "نبض الغد" تحييها جوقة مؤسسة رفيق الحريري، متنقلة في ثنايا ثقافات متنوعة ولغات عدة وتشرف على هذه الحفلة السوبرانو هبة القواس، ومسرحية "ألاقي زيك فين يا علي" من كتابة وتمثيل الفنانة رائدة طه وإخراج لينا الأبيض.
بالإضافة إلى هذا البرنامج يرافق المعرض أيضًا إقامة معرض موسع للفن التشكيلي تشترك فيه مجموعة من الفنانين والفنانات.
دورة المعارض العربية هي الآن في ذروة موسمها، فإذا كان معرض الجزائر المنصرم منذ أيام قليلة قد تميز بأنه المعرض الذي اختفت منه أبرز الكتب السياسية، والذي لا يثير حماسة الناشرين كثيرا، فإن معرض الشارقة المتوطد عامًا بعد عام، بات أشبه باحتفالية كبرى، يستقطب بإمكانياته الكبيرة نخبة الضيوف والمثقفين والمؤلفين، فضلا عن تحوله إلى سوق نشطة، واحتوائه على نشاطات ثقافية كثيفة. وبالطبع تبقى سمة معرض القاهرة أنه "السوق الأوسع" ومنبر السجالات الأدبية والثقافية بالإضافة إلى طابعه الشعبي المحبب.
بينما معرض بيروت يظل المناسبة التي تظهر فيها الكتب الجديدة، المعرض الأقل رقابة، والأقرب إلى قلوب المؤلفين الذين يحرصون على أن يطلقوا إصداراتهم الجديدة بالتزامن مع انطلاقه، بالإضافة إلى أنه يمثل في حركة البيع والشراء "بارومتر" القراءة العربية ومزاجها ووجهتها الراهنة.
aXA6IDMuMTQ0LjQxLjIwMCA= جزيرة ام اند امز