قبل 3500 عام، كان المصري القديم صاحب أول إضراب عن العمل في التاريخ، وذلك بسبب التأخر في صرف الرواتب.
إذا كان العالم يحتفل في الأول من شهر مايو كل عام بعيد العمال إحياءً لذكرى إضراب عمال شيكاغو في 1 مايو 1886 تحت شعار "ثماني ساعات عملًا، ثماني ساعات نومًا، ثماني ساعات فراغًا للراحة والاستمتاع"، فإن الحضارة المصرية شهدت أول إضراب، وأول مظاهرة عمالية في التاريخ منذ أكثر من 3500 عام في عهد رمسيس الثالث، وعرفت أول تنظيمات عمالية نقابية في التاريخ الإنساني.
كان أكثر ما يثير غضب وانزعاج العمال هو تأخر دفع رواتبهم، وتكشف عن ذلك البردية المسماة "بردية الإضراب".
وتعود تلك البردية إلى عهد رمسيس الثالث؛ حيث عانت مصر من مشكلات اقتصادية تسببت في تأخر صرف الرواتب للعمال عدة أشهر، الأمر الذي دفعهم إلى الإضراب عن العمل والسير بمظاهرة من دير المدينة حتى معبد الموت على الضفة الغربية، وجلسوا على الأرض وأعلنوا العصيان لمدة يومين، ورفضوا التحرك قبل الحصول على رواتبهم، وبالفعل تم توزيع الحبوب عليهم وعادوا بعدها إلى العمل.
وتشير دلائل أخرى أوردها الدكتور عبد الحليم نور الدين، رئيس اتحاد الأثريين العرب، في كتاباته، إلى أن القدماء المصريين أول من عرفوا نظام الحضور والانصراف والإجازات، وكذلك ربط الرواتب بالإنتاج، وهو ما تكشف عنه الآلاف من الاوستراكا "الشقافات" التي تتحدث عن حياة العمال، وهي مسجلة بالخط الهيراطيقي، وعثر عليها في دير المدينة، بمحافظة الأقصر.
ودير المدينة، جزء من جبانة طيبة في شمال وادي الملوك في الأقصر، بالتحديد على الضفة الغربية لنهر النيل، وكان مقرًا لعائلات العمال الحرفيين خلال عهد المملكة المصرية الحديثة.
تنظيم العمال
وليس ذلك فحسب، بل إن المصريين أول من عرفوا التجمعات الحرفية، ويقول الدكتور نور الدين إن أول من فكر في تكوين طائفة خاصة من العمال والنحاتين هو المللك أمنحتب الأول، وقد خصص لهم قرية وهي قرية دير المدينة، وكانت محاطة بسور سميك وبها سبعون منزلًا بملحقاتها وكانت بيوت العمال بسيطة وتضم أثاثًا بسيطًا وتضاء بمصابيح تعمل بالزيت.
أما عن تنظيم العمال، فيقول: "كانت طائفة العمال تتكون من ستين إلى مائة وعشرين عاملًا يقسمون إلى قسمين هما، قسم اليسار وقسم اليمين، وكان كل قسم يخضع لسلطة رئيس العمال، وكان العمال ينظمون تنظيمًا دقيقًا تحت سلطة رؤسائهم".
ويشير نور الدين، إلى أن أعلى الهرم بين العمال اليدويين كان يقف الرسامون الذين يرسمون الزخارف لتجميل القبر والصور والتعابير الدينية، بعدهم في الهرم يأتي النقاشون الذين يقومون بعمل الرسوم والزخارف ويعطونها أبعادًا ويحولونها إلى أشكال بارزة، وبعدهم يأتي الصباغون الذي يلونون الرسوم والزخارف، والعمال الذين يقومون بحفر غرف القبور في الصخور الجبلية ويزيلون التراب وبقايا الحفر وينظفون الجدران يقفون في أسفل الهرم الاجتماعي.
الرواتب والإجازات
وتحفل المتاحف المصرية والعالمية بالمقتنيات التي تكشف عن نظام العمل في مصر الفرعونية، ففي المتحف البريطاني توجد لوحة طباشيرية "ترجع إلى العام الأربعين من حكم الملك رمسيس الثاني" وهي من دير المدينة، وسجل فيها أحد رؤساء العمل أسماء ثلاثة وأربعين عاملًا ودون أمام أسمائهم أيام غيابهم، وأسباب هذا الغياب من مرض أو تضحية للإله أو مجرد كسل.
وتسجل إحدى البرديات، أن الوزراء كانوا يزورون المصانع وأماكن العمل ليتفقدوا العمل؛ فمثلًا نجد أن الوزير رخمى رع في عهد تحتمس الثالث زار أحد المصانع وتحدث رئيس العمال إلى العمال وقال لهم: "هيا أيها الرفاق حركوا سواعدكم لنعمل ما يستوجب لثناء الحاكم".
أما عن رواتب العمال، فكانت عينية على شكل مواد غذائية تصرف من الصوامع والمخازن الملكية وكانت عبارة عن كميات كبيرة من السمك، قدر من البقول، وعدد من القدور التي تحتوي على زيوت، دهون، خشب الوقود، الحبوب من القمح، الشعير، الحنطة، وكميات من الخضار.
وكان نصيب رئيس العمال 170 حزمة خضار، والعامل 15 حزمة، وكانوا يمنحون مكافآت تشجيعية من الملك في المناسبات المختلفة مثل اللحوم والملح وقطع من القماش وقطع نحاسية.
أما عن الإجازات فكان العمال يتمتعون بالإجازات وعطلات الأعياد وكانت إجازاتهم عباره ثلاثة أيام شهريًا؛ يوم عن كل عشرة أيام، وكان هناك مكاتب لإدارة شؤون كل طائفة من العمال يحتوي على أرشيف يصف حياة العمال ومشاكلهم، كان هناك مجالس عمالية محلية، وهي المسؤولة عن إدارة وتنظيم شؤون العمال في الطائفة الواحدة.
لم يعرف المصري القديم نظام السخرة، أو حتى الإساءة إلى العمال في عملهم؛ على العكس فقد بنيت لهم القرى السكنية، وخصصت لهم شون الغلال، بل إن أقوال بعض كبار رجال الدولة تشهد على حسن معاملة العمال؛ ففي الأسرة الرابعة يشهد أحدهم ويقول: "أرضيت كل عامل عمل في مقبرتي"، وآخر يقول: "لم أضرب إنسانًا ولم أسخر أحدًا في العمل".
من قيم العمال في التعامل مع رؤسائهم في العمل كما ورد في نصوص الحكم والأدب: "إذا كان رئيسك فيما مضى من أصل وضيع، فعليك أن تتجاهل وضاعته السابقة، واحترمه حسب ما وصل إليه".
aXA6IDMuMTQ3Ljc4LjI0MiA= جزيرة ام اند امز