أكاد أجزم هنا ان العديد من كوارثنا - بما في ذلك انتشار الإرهاب والتطرف والأصولية والحرفية - ناجمة عن غياب الثقافة
قبل أن تصبح الثقافة ضرورة حيوية للجميع ولدى الجميع في المجتمع، فلن ينمو لها عظام ولن تتحول إلى مشروع حضاري وتنموي يسهم في بناء الإنسان ونمو الاقتصاد وتطور المجتمع، وقبل ان يكون للثقافة مشروع ورؤية تعمل من أجل تحقيقهما هيئة مستقلة كفؤة قادرة على الإبداع والمبادرة واتخاذ القرار، فلن تتمكن الثقافة من أداء رسالتها بعيدًا عن البروبغندا الجوفاء والتنميط القاتل. ولذلك نعتقد أنه إذا ما أريد للثقافة أن تكون مشروعًا وطنيًا ترتبط بالهوية الوطنية وبالأفق الإنساني، فإنها يجب أن تكون جزءًا من هذا المشروع الذي يشارك فيه الجميع: الدولة والقطاع الخاص والمثقفون بتوفير رأس المال الثقافي الذي يغدق على الثقافة إيمانًا بدورها في بناء الهوية وفي صهر مكونات المجتمع في إعادة بناء الذاكرة الوطنية في أبعادها المختلفة، والتطلع الحي الى بناء الوطن وتنميته ارتباطًا بالأفق الإنساني، ومواجهة التعصب والتطرف والحرفية والتوحش.
وأكاد أجزم هنا ان العديد من كوارثنا - بما في ذلك انتشار الإرهاب والتطرف والأصولية والحرفية - ناجمة عن غياب الثقافة او ضعف الاستثمار في الثقافة او إلى ضعف الثقة فيها وفي دورها، مع انها تعتبر - مع التربية - صمام الأمان العقلي والفكري ضد التطرف والتعصب والتوحش من خلال تربية النشء على قواعد الفكر والاستنارة وثوابت الهوية والتسامح والانفتاح. فللثقافة دور حيوي في البناء العقلاني والتنويري والعلمي لعقول الشباب بما يجعلهم قادرين على التعامل مع علوم العصر والثورة العلمية والتكنولوجية من موقع الاقتدار، وبمنطق العقل الذي يقود الإنسان في مغامرة المعرفة في اكتشاف العالم من حوله والتأثير فيه والاستفادة من إمكانياته الكبيرة.
ومن هذا المنطق فإن الاستثمار في الثقافة، فضلاً عن كونه أحد أهم وجوه الاستثمار المستدام وله مردودية أكيدة، فإنه يخدم رسالة الدولة والمجتمع معًا، في بناء وحدة المجتمع والتمسك بمقومات وحدته وشخصيته، واستيعاب التيارات والاتجاهات الفكرية والروحية ضمن فضاء الإبداع والتنوع، فأغلب دول العالم المتقدم تنفق على الثقافة بمقدار ما تنفق على التعليم، وتستثمر في الثقافة بمقدار ما تستثمر في قطاعات المال والأعمال والصناعة، وفي النهاية، فإن الدول التي استثمرت في الثقافة والعلوم هي الدول التي استطاعت أن تنتقل الى مجتمع المعرفة واقتصاد المعرفة بالفعل وليس بالشعارات.
إن الاستثمار في المعرفة ودعم نشر الثقافة عبر وسائل الإعلام الجماهيرية يجعل الثقافة ذاتها جماهيرية، ويصبح الفكر جماهيريًا والمعرفة ملكًا للجميع، والفن يسكن في خيال وضمير كل إنسان، وفي كل بيت وفي كل صف دراسي، والذين يحاربون حضور الثقافة والإبداع فإنهم في الغالب أولئك الذين يعملون على تنميط المجتمع وقولبته والعمل على خنقه وجعله يدور في حلقة مفرغة من الجهل والخرافة والاوهام المشحونة بالكآبة العامة.
فإذا ما اعتبرنا الثقافة داعمًا للإصلاح السياسي، وأداة حاسمة في دفع التنمية وتعزيز تماسك الشخصية الوطنية، فلا بد من تعهدها بمزيد من الرعاية والسقاية والتطوير، والدعم من خلال إنشاء المزيد من المؤسسات التي تعنى بالشأن الثقافي وتوفير التمويل الضروري، والمزيد من والفضاءات الثقافية التي تعني بالإبداع ورعايته، وتوفير المزيد من الآليات والأنشطة التي تسهل إدراج الثقافة في المنظومة التنموية، وإعادة هيكلة الإنتاج والاستثمار، وتطوير التشريعات الثقافية، وإحاطة المبدعين بالمزيد من التشجيع، ورفع الميزانية المخصصة للثقافة، لأن بحرين الغد تحتاج الى المزيد من القرارات والإجراءات التي ترتقي بالثقافة الوطنية إلى المستوى المنشود، تعزيزًا لمجتمع المعرفة، وحفزًا على الانخراط في الأشكال الجديدة للإنتاج الثقافي، وذلك لأن الثقافة أداة حاسمة للتعبير عن وعي الشعوب، وإبراز خصوصياتها، والتعريف بإبداعاتها، وترسيخ تواصلها مع سائر الحضارات والثقافات، والاعتماد والمعول هنا على المبدعين والمبدعات لتكريس هذا التوجه، والمثابرة على إنجاز أعمال أصيلة وهادفة في مختلف المجالات، لمواكبة تطورات العصر المتسارعة وملاءمتهم بين القيم الثابتة والواقع المتغير، وتوجيههم الى ضرورة العمل ضمن ميثاق ثقافي يعنى بالشخصية الوطنية وبطابعها الموسوم بالاعتدال والوفاق والتسامح والتضامن، والانفتاح على العالم ضمن فرص الحوار المتكافئ والوفاق المتبادل بين مختلف الثقافات لاستيعاب مقومات الحداثة والابتكار والامتياز..
من ثقافة الدولة إلى دولة الثقافة
إذا اتفقنا أن الثقافة تحتل مكانة هامة في هوية الدولة التي لا تنهض من دون القوة المادية والقوة الثقافية - الروحية، فلا مناص للدولة من بناء ثقافة خاصة بها تميزها عن غيرها من الدول، والسعي إلى تشكيل أو تعزيز هويتها وخصوصيتها الثقافية في التميز، ويظهر حرص الدول على تشكيل ثقافاتها الوطنية من خلال البرامج والمشاريع واستراتيجيات التنمية الثقافية وسعيها إلى «رعاية الثقافة» قولاً وفعلاً، بدعم الإبداع والخلق ضمن معايير «الثقافة الوطنية الحرة بتوفير المناخ الأفضل للحريات، بما في ذلك رفع يد الدولة عن إدارة الشأن الثقافي، حيث يجب أن تنسحب الدولة الديمقراطية شيئًا فشيئًا من مجال التوجيه المباشر للثقافة، والإنتاج المباشر لها، وتقتحم مجال رعاية الإنتاج ودعمه، ولكن ليس المطلوب من الدولة التخلي عن جميع أسباب تدخلها في الإنتاج الثقافي، فذلك أمر لا يرغب فيه المبدعون الذين يعتبرون أن الأعمال الإبداعية الكبرى لا يقدر عليها الأفراد أو الجمعيات الثقافية، ولذلك فمن الضروري تدخل الدولة من خلال توفير الدعم والمتابعة والرعاية وإقامة المهرجانات الكبرى والمعارض والمحافظة على الاثار والتراث الوطني.
همس
شظية من غيمة على زهرة قمح
تنبت في سهل المغيب.
في المسافة بين الكلمة والكلمة
نصف مجرة ونصف قلب مهجور.
أقف ساهدًا بين صمتك وصمتي،
متواعدان بين دوائر المستحيل،
جالسان في أحضان أيدينا
عائدان من لحظات البرد المهملة
في الشوارع بلا كلمات.
*- نقلا عن جريدة الأيام البحرينية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة