استاء البعض ممَا ذكرته في المقال الأخير، من أن "الهويَة الوطنية السورية مجرَد وهم"، واستياؤهم هذا صادق وعفوي.
استاء البعض مما ذكرته في المقال الأخير، من أنَ «الهوية الوطنية السوريَة مجرد وهم».
واستياؤهم هذا صادق وعفوي ويعبِر عن جرح أصاب عاطفتهم الوطنيَة، وهذا ما يُشكل منطلقًا للرد عليهم.
ذاك أن الهوية الوطنية لا يُمكن أن تعتمد في وجودها على الجانب العاطفي المتعلق بها، هذا مع التشديد على أهمية هذا الجانب وحيويته.
والحال أن مصيبة الهوية الوطنية السورية الأساسية هي جهل تاريخ سورية، وكمية التشويه الذي لحق بهذا التاريخ نتيجة التربية القومية العروبيــة والبعثيــة، فـضلًا عمَّا تــعرض ويتعرض له التاريخ من تفسيرات تتبع هوى المفسرين وآراءهم.
في كل حال، لا بـــد من الإقرار بأن الهوية الوطنية السورية لم تلقَ ذاك الإجماع الذي تـــستــحقه كمشروع وطني، وذلك منذ نشأة الكيان السوري.
فحتى الآباء المؤسسون، وعلى رغم إنجازاتهم الوطنية، لم يعملوا على استكمالها كمشروع وطني، وهذا ما ظهر غداة الجلاء، إذ استبعدوا الأقليات من الحكم وأظهروا رغبتهم في الاستئثار بالسلطة، ثم انقسموا مجموعتين تريدان إلحاق البلاد بالعراق أو الأردن.
وإذ شكل خالد العظم الاستثناء الأبرز في هذا السياق، برز مثال آخر يترفع الجميع عن الاعتراف بجهوده في محاولة بناء الهوية الوطنية، وهو الجيش، أو بكلمات أدق، بعض ضباط الجيش الأوائل. فبالرغم من أن الجيش شكل رافعة للأقليات المقهورة للوصول إلى السلطة، فإنه كان في مناسبات مختلفة المؤسسة الوطنية الأبعد من التجاذبات الضيقة للسياسيين السوريين، ما أهله ليكون مختبرًا حقيقيًّا لصهر المكونات السورية وبناء علاقات وطنية بينها، بخاصة أن لأبناء الأقليات الفضل الأول في تشكيله.
وبعيدًا من سلبيات الانقـــلابات الأولى، كانت هناك مجموعة من الضباط المتـــأثـــرين بنموذج كمال أتاتورك وقدرته على إنقاذ بلاده وإحيـــائها، لكن الحظ لم يحالف هؤلاء الضباط الذين كان آخـــرهم وأبــــرزهم محمد نــاصر، ذو الأصول العلوية، وعـــدنان المالكي ذو الأصـــول الدمشقيـــة، وقد اغتيلا نتيجة مواقفهما الوطنية الاستقلالية والشعبية.
ولا شك في أن مستقبل الهوية الوطنية السورية قد دُفن مع وصول حافظ الأسد إلى السلطة، وإذا كان لا بد من تعيين تاريخ لذلك فليس أجدر بهذا من مجزرة حماة في 1982، التي استطاع كثر من السوريين التعايش معها وكأنها حصلت في بلد آخر، وأظهرت انتهازية أعيان دمشق ومشايخها الذين تعاونوا مع الديكتاتور وأسكتوا الناس كما فعلوا لحظة وصوله إلى الحكم.
أما اليوم، فما زال السوريون غير قادرين على فهم السوري الآخر المختلف، وما زالت الهويات الصغرى ومسائل الأقليات والأكثرية الطائفية عنصرًا حاسمًا في تفريقهم، إضافة إلى مسألة العروبة بالطبع، إذ كانت أكثرية السوريين تجهل وتتجاهل أن مئات الآلاف منهم محرومون من حق جنسية بلادهم فقط لأنهم أكراد.
وهذا ما حدث أثناء الثورة للأسف، إذ أبدى جزء كبير من أبناء الثورة من السُّنَّة رفضهم لمواطنيهم المفترضين من الأقليات، علويين ودروز ومسيحيين وأكرادًا، وحدث العــكس أيـــضًا عــنــدما واصــل كثــر من السوريين المؤيدين للنظام حياتـــهم العــادية فيما كانت المجازر الوحشية تحدث في جوارهم، وربما في أحيان كثيرة على أيدي أقربائهم ومعارفهم.
هكذا، تبقى الهوية الوطنية السورية مجرد وهم ينتظر من يبادر إلى تبديده.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة