فرنسا هي الدولة الغربية الوحيدة التي ثبتت على موقفها من ضرورة خروج بشار الأسد من أية تسوية للمأساة السورية.
ضربَ إرهابُ «داعش» باريسَ قلبَ فرنسا بقوة ووحشية، يومًا قبل انعقاد اجتماع «فيينا- 2». وهو دون أدنى شك عمل إجرامي بشع ومدان لا يقره دين أو خلق.
لكن المتأمل في توقيت هذا العمل الإرهابي الوحشي وكيفية تنفيذه والظروف التي حدث فيها والجهة المستهدفة منه، لابد أن يربط جملة من المعطيات بعضها ببعض في سياق تحليلي ليصل إلى نتيجة واحدة تجيب عن السؤال المحوري هنا، وهو: مَن المستفيد مِن هذا العمل الإرهابي الوحشي؟
إذا عرفنا أن فرنسا هي الدولة الغربية الوحيدة التي ثبتت على موقفها من ضرورة خروج بشار الأسد من أية تسوية للمأساة السورية، وأعلنت دعمها لقوى الثورة ضده وضد نظامه الفئوي القمعي، وأنها -أي فرنسا- وقفت بقوة ضد محاولات إجهاض الثورة السورية بحلول ترقيعية كالتي تروج لها روسيا وإيران، في حين تذبذبت مواقف الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وألمانيا في هذا الشأن. وإذا عرفنا أيضًا أن فرنسا كانت أحد مزودي المعارضة السورية بالسلاح الذي مكنها من الصمود أمام قوات النظام المدعومة من قبل الحرس الثوري الإيراني وميليشيا «حزب الله» اللبناني والميليشيات العراقية والأفغانية والباكستانية الطائفية وأخيرًا القوات الروسية.
يُضاف إلى هذا سعي فرنسا لاستصدار قرار من مجلس الأمن الدولي يحدد أُطُر اتفاق بين إسرائيل والفلسطينيين، وهو ما تعارضه إسرائيل بشدة، وتتحفظ عليه الولايات المتحدة الأمريكية.
إذا عرفنا ذلك كله؛ تبين لنا لماذا تم استهداف باريس بهذه الضربة الموجعة التي تبناها تنظيم «داعش» الإرهابي الذي لم نعرف له أية ضربات في إيران أو إسرائيل، بل ضرباته تستهدف دولًا تعارض نظام الأسد الطائفي وسياسات إيران التخريبية.
الهدف إذًا هو الضغط على فرنسا لتقتنع بنظرية روسيا وإيران أن الخطر الأكبر الواجب شن الحرب عليه، هو إرهاب «داعش» وليس نظام الأسد الذي تسبب في قتل أكثر من 250 ألف سوري، وتهجير أكثر من عشرة ملايين آخرين، وتدمير المدن والقرى على رؤوس سكانها، بما فيها من مساجد ومعالم ومؤسسات، مستخدمًا مع مسانديه كل أنواع الأسلحة بما فيها الأسلحة الكيماوية والبراميل المتفجرة، والذي هو السبب الرئيسي في حدوث هذه المأساة الدامية.
روسيا وإيران ترفضان إسقاط الأسد من أي حل مرتقب للمأساة السورية، وفرنسا ترفض ذلك كما ترفضه دول الخليج العربية وعدد كبير من دول العالم، لذلك تم التخطيط لتنفيذ هذه الجريمة المنكرة في هذا الوقت الحرج، لكي تنضم فرنسا إلى قطيع الدول الغربية التي ميَّعت مواقفها السابقة، وسارت في ركاب الأكاذيب الروسية - الإيرانية. ولهذا رأينا الرئيس هولاند، متأثِّرًا بما أصيبت به عاصمة بلاده من إرهاب أعمى، ركز في خطابه بعد ذلك الحادث الإجرامي، على محاربة الإرهاب قبل أي شيء آخر، بل بدأت قوات بلاده الجوية بقصف مواقع لتنظيم «داعش» في سورية. وهذا هو ما كانت تريده روسيا وإيران وتعملان من أجله منذ وقت طويل.
لقد اتضحت شماتة روسيا وإيران وبشار بما حدث في باريس. بل قرأنا تصريحات لهذه الأطراف الثلاثة تلوم فرنسا على دعمها للإرهاب، وأنها الآن تكتوي منه. وهذا ما يُفسِّر قول بوتين: إن هناك أربعين دولة تدعم الإرهاب في سوريا والعراق.
ومن الواضح أنه يُدرج فرنسا ضمن هذه الدول التي هي في الحقيقة، دول تدعم قوى الثورة السورية الوطنية وليس «داعش» الذي نبت في العراق المحتلة من قِبَل إيران. لكن خبث الرئيس بوتين ونواياه الاستعمارية في المنطقة تجعله يدلس ويقلب الحقائق مثله مثل قادة إيران وعملائها في المنطقة.
المؤلم في هذا كله أن الشعب السوري سيبقى يُعاني لزمن طويل من حروب تقوم بها قوى أجنبية على أرضه، ومناورات خبيثة لتمييع قضيته وإبقائه تحت حكم طائفي باطش على رأسه أسد أو ضبع أو ذئب تقبله روسيا وإيران، وتغض الطرف عنه دول الغرب الكبرى التي أضاعت فرص إنقاذ الشعب السوري في بداية ثورته، وها هي الآن تُضيع ما تبقى له من حلم بالخلاص من هذا الكابوس الرهيب.
لقد فشلت الضربات الجوية التي تقوم بها قوات التحالف حتى الآن في أن تقضي على «داعش»، بل زادت في توحشه وامتداده إلى أبعد الآفاق، فلم يعد محصورًا في العراق وسوريا، وإنما امتد ليضرب في السعودية والكويت ومصر ولبنان وليبيا وتونس وتركيا وفرنسا.
فهذه الضربات السابقة والحالية والمقبلة، تتجاوز مصدر الداء العضال إلى الاكتفاء بالمعالجة الموضعية للأعراض بدلًا من اجتثاث جذور الداء الذي أوجد «داعش» وأتاح له الفرص المتوالية لممارسة الإرهاب على أوسع نطاق، في مأمن من الخطر الذي من المفترض أنه يهدده.
ولذلك فإن التحرك الفرنسي-الروسي الجديد في إطار التحالف بين الدولتين لمحاربة «داعش»، لن يجدي فتيلًا؛ لأنه ينطلق من غير الأساس الذي ينبغي أن ينطلق منه، ويتخطى المصدر الرئيسي للخطر الحقيقي، إلى المصدر التابع له الذي ينفذ السياسة التي تصنع في دمشق وطهران وتل أبيب، وربما في عاصمة أو عواصم أخرى.
ولا شك أن النظام الطائفي الاستبدادي في سوريا هو في مقدمة تلك الأطراف. ذلك أن الجرائم التي يرتكبها «داعش» فوق قدرات تنظيم إرهابي حديث العهد بالنشأة، والخبرات التي يتوفر عليها لا يمكن أن تكون إلا لدولة قائمة الذات لها طول الباع في ارتكاب الجرائم ضد الإنسانية في الداخل والخارج، وتحت يدها خيوط كثيرة تديرها بمهارة لتنفيذ خططها الإجرامية الإرهابية، تساندها دولة إقليمية تلتقي معها في المصالح المشتركة الجامعة بينها، إلى جانب أطراف دولية لها مصلحة في انفجار الأوضاع في المنطقة، وفي انتشار الفوضى الهدَّامة التي لا تُبقي ولا تذر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة