إذا كان الشيعة العرب يعيشون مع السُّنَّة في أوطان واحدة منذ مئات السنين، كيف تحولوا إلى "شر مستطير"؟
حينما اندلعت ثورات الربيع العربى، لم يتصوَّر عاقل -مثلًا- أن الخلفية الدينية للحكام العرب الذين هبت في وجوههم نيران الغضب، كانت السبب الرئيسي في السعي للإطاحة بهم.
لم يطلب المصريون من "حسني مبارك" الرحيل؛ لأنه حاكم سُني، ولم يكن مكمن الغضب الذي أطاح بـ"علي عبد الله صالح" انتماؤه الزيدي.
غادر مبارك مصر وقذافي ليبيا وصالح اليمن وبن علي تونس، بسبب الاستبداد والفساد واحتكار السلطة في المقام الأول، ولم يكن لأي عامل ديني أو طائفي سببًا مباشرًا في تسخين الغضب وتفجيره.
كذلك الحال وقت أن اندلعت الثورة السلمية في شوارع المدن السورية، هل تتصور أن تلك التضحيات، وتلك الصدور العارية في درعا وحلب، واجهت رصاص النظام فقط لأن بشار حاكم علوي؟
وهل تعتقد أن بشار ومن قبله والده لو كانا ينتميان للسُّنَّة، ويمارسان ذات السياسات والإجراءات بما فيها من فساد واستبداد وقمع واحتكار، ما كان لثورة أن تنهض مطالبة برحيله؟
لكن الواقع الذي استقر في الشارع العربي أن بشار حاكم علوي، لذلك لابد أن يرحل. امتلأت الشاشات والمنتديات بمن يحرض الجماهير طائفيًّا في كل العالم العربي، ودعت التنظيمات المقاتلة في سوريا الشبان السُّنَّة للتطوُّع للجهاد ضد آخر ديني، لم تدعُهم لتحرير سوريا من الاستبداد، وإنما من العلويين.
***
في القاهرة كان خطيب صلاة الجمعة في المسجد الصغير، يستعد لإنهاء خطبته للولوج فورًا للصلاة بأدعية تقليدية شبه محفوظة، منها الدعاء على اليهود والصليبيين، لكنه هذه المرة أضاف مكونًا جديدًا لدعائه حين قال: "اللهم أهلك اليهود والصليبيين والروافض والشيعة والحوثيين". المفردات الثلاث الأخيرة تصب عند معنى واحد هو الشيعة.
منذ متى بدأت بعض المساجد في الدعاء على الشيعة؟
الحقيقة: إنه ليس سؤالًا هينًا. على الأقل خطيب هذا المسجد وكثير من المصلين خلفه الذين رفعوا أكف الضراعة إلى الله وهم يقولون: "آمين"، يربطون بين الحرب التي تقودها المملكة العربية السعودية أرض الحرمين ومهد الإسلام ورأس "السُّنَّة"، وبين الحوثيين المدعومين من إيران بوصفهم "الشيعة".
بين البسطاء في مصر والعالم العربي هي حرب بين الإسلام السُّنِّي الذي تمثله السعودية ومصر وباقي دول التحالف، والإسلام الشيعي الذي تمثله إيران ومن تدعمهم من جماعات وتنظيمات تنتمي لذات المذهب في أكثر من بلد عربي، هذا ما يقوله لهم المشايخ والإعلام، أو يستنبطونه بسهولة من بين أحاديثهم.
مشايخ السلفية في مصر وصفوا بوضوح حرب اليمن بأنها جهاد في سبيل الله تخوضه جيوش المسلمين ضد "الروافض"، ومثلهم أظهرت فتاوى خليجية وإخوانية ذات المواقف وصَدَّرت ذات الفهم، حتى إن مشايخ لهم شهرتهم وشعبيتهم في العالم العربي نشرت تصريحات تعزز المعنى الديني للحرب، مصحوبة بتعليقات كثيرة، لا تكاد تلمح تعليقًا واحدًا ينطلق في تأييده للحرب من اعتبارات وطنية أو قومية أو سياسية، وإنما مشاعر دينية غالبة، وكراهية بلا حدود للشيعة في العموم، بما يجعلك تتساءل، لو كان الانقلاب على الشرعية في اليمن جاء من جماعات أو تنظيمات غير منتمية مذهبيًّا للمكون الشيعي، هل كان تعاطي الشارع العربي معه سيختلف في وصف الحرب؟
الأمر ربما يكون أكثر وضوحًا بالنظر إلى تعاطي الجماهير مع التفجيرات الإرهابية التي نفذها تنظيم "داعش" في الضاحية الجنوبية ببيروت، وكم ما صدر من عقول تغذت على تأجيج الصراع من شماتة في القتلى والضحايا بوصفهم "روافض" يستحقون الموت.
تأتي كل هذه المشاعر السلبية والمواقف العدائية رسميًّا وشعبيًّا، في وقت لا يخلو فيه بلد عربي من نسبة سكانية تنتمي للطائفة الشيعية، تزيد حجمًا كما في العراق، أو تقل كما في مصر، لكنها تتواجد وتنتشر حتى في الخليج، والسعودية ذاتها.
إذا كان الشيعة العرب يعيشون إذن مع السُّنَّة في أوطان واحدة منذ مئات السنين، كيف تحولوا إلى "شر مستطير"؟
الإجابة: منذ أن صارت إيران تهديدًا مباشرًا.
***
رغم أن الصراع الديني المذهبي بين السُّنَّة والشيعة قديم جدًّا ويعود لمرحلة مبكرة من تاريخ الإسلام حين نشب خلاف كبير على خلافة رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم بين الصحابة، أدى لانقسام الأمة فيما بعد بين سُنة وشيعة، واندلاع معارك بين الصحابة أنفسهم، ومع استقرار الحكم في أغلب مراحل الدولة الإسلامية لصالح السُّنة، حدثت توترات وتمردات وانتفاضات شيعية كثيرة على مر التاريخ، إلا أن العصر الحديث -تحديدًا خلال القرن الماضي- لم يشهد توترات كبيرة بين الشيعة والسُّنة داخل المنطقة ولا خطابًا مذهبيًّا حادًّا كما هو حاصل حاليًّا، على العكس الأميرة فوزية شقيقة الملك فاروق ملك مصر والسودان التي تنتمي لعائلة "سُنية" تحكم بلدًا "سُنيًّا"، تزوجت شاه إيران محمد رضا بهلوي الذي ينتمي لعائلة "شيعية" تحكم بلدًا شيعيًّا.
وقاتل السعوديون "السُّنة" مع الزيديين "الشيعة" في اليمن الذين ينتمي لهم الحوثيين، ضد الجيش المصري في الستينيات من القرن الماضي، وظلت العلاقات العربية الفارسية مع إيران الشيعية عادية وتقليدية ووثيقة في كثير من الأحيان، ولم تظهر الخلافات المذهبية وطبائعها الدينية في تكوين هذه العلاقات السياسية.
التحول بحدة بالغة في الخطاب العربي تجاه الشيعة بدأ من بعد العام 1979، حين نجحت الثورة الإسلامية الإيرانية في تأسيس جمهورية ولاية الفقيه الدينية الشيعية من جانب، وضعف الخطاب القومي العربي الذي تغذى على العداء لإسرائيل من جانب آخر، بعد توقيع مصر معاهدة السلام مع إسرائيل.
السياسات الإيرانية التي سعت لتصدير الثورة الإسلامية، وأظهرت أطماعًا قومية فارسية في المنطقة، ورغبة في التوسع والهيمنة، خلقت صراعًا واضحًا بين الخليج والسعودية في قلبه وبين إيران، تصاعد بشكل لافت واستدعى كل تراث القتال المذهبي بين الشيعة والسنة، وكأن التاريخ عاد ألف وأربعمائة عام.
***
للصراع الإيراني الخليجي أسبابه السياسية والاستراتيجية والقومية، لكنك تُفاجأ باختزال الأمر في بُعده المذهبي، ما يجعلك تفكر في مستقبل الشيعة العرب في ظل خطاب مذهبي يُعمم الكراهية، ويحول صراع مع إيران إلى مواجهة شاملة مع الشيعة، سياسيًّا واجتماعيًّا وعلى المنابر والشاشات وفي الصحف ومواقع الإنترنت، تنطلق من الطعن في العقيدة، وحتى التخوين الوطني، ما جعل الشيعة العرب وهم ليسوا كلهم "الحوثيين وحزب الله والميليشيات العراقية" محل شك واتهام وتكفير أيضًا، يُشارك فيه الخطاب الديني والإعلامي، وحين تربط ذلك بتعثر المشروعات القومية أو الوطنية القادرة على إدارة التنوع في البلاد العربية في إطار المواطنة المتساوية ومكافحة التمييز، يمكنك أن تتوقع مع استمرار الصراع العربي الإيراني أن مستقبل الشيعة العرب، ربما يماثل -مع بعض الفوارق قطعًا- ما جرى لليهود العرب.
***
قبل خمسينيات القرن الماضي، لم يكن هناك خطيب مسجد يدعو بهلاك اليهود ويتضرع وراءه المصلون بقول: "آمين"، وكان اليهود العرب جزءًا من نسيج مجتمعاتهم، يجري عليهم ما يجري على غيرهم من معاناة وتطور ورغد، يساهمون في تطور مجتمعاتهم وحداثتها، ولا تلحظ تمييزًا أو كراهية ضدهم، ويكفي أن تشاهد الأفلام المصرية في تلك الفترة لتدرك ذلك، لكن تأسيس دولة إسرائيل غيَّر كل شيء مع تفاعل الصراع العربي الإسرائيلي سياسيًّا وعسكريًّا.
احتشد العقل العربي في هكذا صراع بكل أسلحته، بما في ذلك النبش في التراث الإسلامي للبحث عن كل ما يمكن تخريجه لإدانة اليهود، وتحوَّل الصراع إلى معركة مع اليهود كل اليهود بما فيهم مَن لم يهاجروا لإسرائيل وتمسَّكوا بأوطانهم، ومن رفضوا منهم قيام دولة إسرائيل، وكانوا أقرب للمواقف العربية والحقوق الفلسطينية، وفى ظل وجود يهود عرب في أغلب البلاد العربية بنسب متفاوتة، بدأ الجسد العربي يُضيق عليهم باتهامات التخوين والولاء لإسرائيل، ومع ممارسات إسرائيلية عدائية رامية لتهجير اليهود العرب، انتهى الأمر إلى مغادرة اليهود البلاد العربية بعضهم راغبًا والبعض الآخر مُكرهًا بسبب المناخ المعادي، والأقلية التي تمسكت بالبقاء، ظلت حتى الآن تسمع اللعنات الموجهة لها على منابر المساجد بسبب صراع مع إسرائيل لم يكن كل اليهود طرفًا فيه.
***
لا أحد يقول: إن هناك احتمال أن يهاجر الشيعة العرب كاليهود؛ لأن إيران بعكس إسرائيل، تريد الشيعة في مناطقهم لتضغط بهم على العالم العربي وتسعى للاستفادة من هذا الضغط النفسي على الشيعة العرب لتعزيز محاولات سلخهم عن أوطانهم، في الوقت الذي يوفر فيه النظام الثقافي العربي هذه الميزة لإيران، بخطاب يحمل الشيعة كل الشيعة مسؤولية التجاوزات الإيرانية، والممارسات المسلحة لبعض التنظيمات المسلحة في بلاد عربية محسوبة سياسيًّا على طهران، تمامًا كما تحمَّل اليهود كل اليهود مسؤولية الجرائم الإسرائيلية في الخطاب العربي.
تحويل الصراع مع إيران إلى صراع مذهبي يصب في صالح إيران، ويخصم من الجانب العربي، ويُضعف موقفه. فليس من مصلحة العرب خسارة "شيعتهم"، وليس من مصلحة أي طرف دولي أو إقليمي لا يرغب في مزيد من التمدد الإيراني على الإقليم، ترك صراع مذهبي سُني شيعي يندلع دون تدخل لوأد هذا الانفجار الكبير، وبداية وأده ألا يكرر العرب ذات الخطأ مع اليهود في سياق صراع مع إسرائيل، وأن يتذكروا أن إيران ليست الشيعة، وليس بالضرورة أن كل الشيعة في العالم لديهم ولاء للولي الفقيه، وأن خطابهم في هذا الشأن الذي لا يخدم إلا إيران التي تستفيد مباشرة من أي تديين لخلافها مع العرب، في حاجة لتغيير وترشيد سريع، جنبًا إلى جنب مع الاعتراف بالتنوع في الداخل العربي وحُسن إدارته.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة