بعد أيام قليلة يصبح البرلمان الجديد في مصر حقيقة.. وأيّا كان شكل البرلمان ومكوناته وأفكاره فقد أصبح شيئا واقعا علينا أن نتعامل معه كسلطة تشريعية قائمة ومؤسسة من أهم مؤسسات الحكم في الدولة، خاصة أنه استكمال لخارطة الطريق التي وضعتها ثورة يونيو التي أطاح فيها الشعب بجماعة الإخوان المسلمين..
ولأن البرلمان أصبح حقيقة فلا بد أن نقرأ الأحداث بكل تفاصيلها منذ بدأت الانتخابات وحتى نهايتها بهذه الصورة التي جاء عليها حتى يمكن لنا تحديد مستوى الأداء الذي نتوقعه من هذه المؤسسة الجديدة..
ينبغي ألا نقرأ ظاهرة الغياب في الشارع المصري عن حضور الانتخابات والمشاركة فيها قراءة عادية، إنها تحمل الكثير من التساؤلات وايضا الكثير من المؤشرات، لقد قرأ الشارع المصري الصورة كاملة قبل أن يبدأ التصويت واكتشف أن هناك صفقات تم إعدادها لهذه الانتخابات في أكثر من صورة..
كان اقتحام رأس المال الانتخابات أخطر ظاهرة تشهدها مصر بعد قيام ثورتين..
لقد دارت معركة دامية بين رجال الأعمال حول هذا المجلس بما في ذلك تلك القوى التي حسبت نفسها على الدولة ووجدنا أنفسنا أمام كتل صاعدة لا أحد يعرف من أين جاءت وكيف تشكلت، وهذه القوى المتنافرة والغامضة لا يجمع بينها فكر أو موقف أو برامج، إنها كائنات هولامية بلا تاريخ ولا رموز ولا خطط، وهذه المكونات الغريبة لا تصلح لقيادة أمة في ظرف تاريخي صعب ولكن هذا ما حدث.. إن عشرات بل مئات الوجوه التي تمثلنا الآن في البرلمان لا أحد يعرف عنها شيئا، ولهذا نتوقع الكثير من المفاجآت تحت قبة البرلمان القادم، هذه القوى التي تشكلت في شهور أو أسابيع لتخرج علينا كاملة النمو في الشكل لا أحد يعرف ما تحتويه من الرؤى والأفكار، ولا أتصور حزبا يقام في أسابيع وتجمعا يقام في أيام ويتحول إلى مشروع سياسي في ظروف غامضة..
وما بين رجال الأعمال ورأس المال المسيطر على البرلمان ووجوه متناقضة في الفكر والمواقف وقوى سياسية -جاءت من علاقة غير واضحة المعالم والنسب- سوف يطرح هذا السؤال نفسه: ما الأفكار، والبرامج التي يمكن أن تقدمها هذه التوليفة الغريبة والشاذة؟!.
< هناك غياب كامل لقطاعات أساسية في هذا المجتمع عن البرلمان القادم ورغم أننا كنا نطالب بإلغاء نسبة العمال والفلاحين في البرلمان إلا أننا لم نتخيل أن يتم إخراج هذه القطاعات تماما من أهم مؤسسة تشريعية ورقابية في الدولة، هناك غياب مريب للعمال والفلاحين في هذا البرلمان الذي سيطرت عليه فئات مجهولة.. ولا أحد يدري حين تناقش القوانين الخاصة بهذه القطاعات من سيتحدث باسمها وكل فصيل سوف يبحث عن مصالحه وأهدافه..
نحن أمام أكثر من فصيل وأكثر من تكتل في المجلس الجديد من رجال الأعمال، وهؤلاء بالضرورة تتعارض أفكارهم ومطامعهم مع أهداف ومصالح الملايين من أبناء هذا المجتمع من العمال والفلاحين والمهنيين والحرفيين والمعاقين والمحرومين، إن الشيء المؤكد أنه لا صوت للفقراء في البرلمان القادم وهم يمثلون الأغلبية في الشارع المصري.
< إن القوى السياسية التي ظهرت بقدرة قادر في هذه الانتخابات وهى لا تحمل أي رصيد تاريخي ولا تضم رموزا سياسية حقيقية وهي نبت شيطاني لا أحد يعرف من زرعه تمثل تهديدا حقيقيا للعمل السياسي في الشارع المصري لأنها بلا مقومات حقيقية وبلا تواصل حقيقي مع الشارع حتى وإن نجحت عناصرها في الانتخابات، ولأنها ظهرت في ظروف غامضة ومناخ منفلت لا أحد يعلم كيف ستمارس دورها خاصة في العلاقات بين هذه القوى، إنها خليط من رأس المال والحزب الوطني المنحل ورموز المؤسسات السيادية السابقين وأبناء الطبقة الجديدة من سماسرة الأراضي وتجار الفرص، وهؤلاء لا يجمعهم غير شيء واحد ولغة واحدة هي المصالح، وهذا يعني أن نجد أنفسنا أمام الحزب الوطني المعدل بدل المنحل، ورغم كل هذه التناقضات والمخاوف فإن هذا المجلس سيكون أخطر مجلس نيابي تراه مصر في العصر الحديث.. إنه يجمع شظايا ثورتين.. ويضم بقايا نظامين.. ويلملم أشباح رئيسين وقبل هذا كله هو يجمع خطايا عهدين.. إن أمام هذا المجلس عدة قضايا يمكن أن تزلزل أركان هذا الوطن..
< يكفى ما تتعرض له المنطقة من كوارث ومعارك ومؤامرات ونحن وسط هذه الصراعات الدولية والإقليمية المخيفة علينا أن نواجه كل هذه التحديات.. إن أمام هذا المجلس تهديدات تحاصر الأمن القومي المصري من جميع الجهات شرقا وغربا وشمالا وجنوبا ومن كل اتجاه.
< أمام هذا المجلس عشرات القوانين التي صدرت في صورة قرارات جمهورية، ومعظم هذه التشريعات تعالج قضايا اجتماعية واقتصادية هامة وخطيرة، ويكفي أن نذكر منها قرارات إلغاء الدعم وأسعار الخدمات والخدمة المدنية والمشروعات الكبرى في استصلاح الأراضي والعاصمة الجديدة والمفاعل النووي في الضبعة والتوسع في سياسة القروض الداخلية والخارجية والعجز في الميزانية وحجم الديون التي تجاوزت 2٫6 تريليون جنيه.
< أمام هذا المجلس أيضا الأحوال السيئة التي وصلت إليها البنية الأساسية في معظم المدن الكبرى وما حدث في مجارى الإسكندرية ومزارع البحيرة والسيول التي اجتاحت البيوت والشوارع وأين أنفقت الدولة المصرية البلايين التي اقترضتها في السنوات العجاف تحت دعاوى إنشاء البنية الأساسية من المياه والمجاري ومحطات الصرف والمياه وقد تكلفت الملايين.. إن هذا المجلس مطالب بفتح هذه الملفات لكي يحاسب الشعب من نهبوا أمواله واعتدوا على حقه في حياة إنسانية ولا أقول حياة كريمة..
< أمام هذا المجلس ملفات التصالح مع من نهبوا مال الشعب، هذا الملف الذي تأجل عشرات المرات طوال خمس سنوات كاملة ما بين جهات كثيرة حتى صدر أخيرا القانون الجديد الذي يبيح التصالح في نهب المال العام إذا تم اكتشافه، أما إذا بقي سرا فالعوض على الله..
ورغم أن القانون الجديد فتح أبوابا كثيرة للتحايل إلا أن الذين نهبوا هذه الأموال لم يتقدموا حتى الآن لرد هذه الأموال.. إن تأجيل هذه القضية كل هذا الوقت والتسويف فيها وانتقالها من جهة إلى أخرى ضيّع على الدولة فرصة استرداد هذه الأموال وبدأت الأحلام تتضاءل حتى وصلت إلى درجة تهدد إمكانية استرداد أي شيء من هؤلاء الهاربين حتى إنهم الآن يشترطون على الدولة تلبية مطالبهم وكأنهم الطرف الأقوى.
< بعد كل ما أصاب الإعلام المصري من مظاهر التراجع والفوضى والارتباك سوف تكون قضايا الإعلام من أخطر وأهم التحديات أمام البرلمان القادم.. لقد أجلت الحكومة إصدار القوانين طوال الفترة الماضية وهناك مواد في الدستور الجديد تحدد دورا للبرلمان في تنظيم مجلس الإعلام، والآن أصبح من الضروري أن تعرض مشروعات قوانين الصحافة والإعلام بعد إقرارها من الحكومة على البرلمان..
سوف تكون أمام البرلمان قضايا أخرى من بينها إنشاء نقابة للإعلاميين وإنشاء المجلس القومي للإعلام الذي سيقوم بتعيين القيادات الصحفية والإعلامية في مؤسسات الدولة.. أيضا سوف يكون أمام البرلمان قضية خطيرة وهي العلاقة بين رأس المال والإعلام في ظل عشرات المؤسسات الإعلامية الخاصة التي أنشأت الفضائيات والصحف، وكيف توضع الضوابط المالية والسياسية والمهنية والأخلاقية التي تحدد مسئوليات هذه المشروعات في قوانين الإعلام الجديدة، هذا بجانب ضرورة الكشف عن مصادر تمويل الأنشطة الإعلامية المشبوهة داخليا وخارجيا.
< سوف تبقى هموم المواطن المصري في حياته اليومية عملا ومعيشة وإنتاجا وحماية من أهم الأولويات في أعمال البرلمان القادم.. خمس سنوات كاملة وهذا المواطن الحائر بين أكثر من حكومة وأكثر من وزير وأكثر من قرار ولا يجد الحماية من أي جهة في ظل مؤسسات مدنية وتشريعية غابت عن الساحة.. سوف يكون البرلمان الجديد مسئولا عن الدفاع عن مصالح هذا المواطن أمام قوى متعددة الأهداف والمصالح..
إن المواطن المصري في حاجة إلى من يقدم له الدعم المعنوي والأدبي أمام مؤسسات الدولة في ظل تجاوزات ربما فرضتها ظروف المرحلة أمنيا واقتصاديا وتجسدت في إجراءات اتسمت أحيانا بقدر من الفوضى وغياب المسئولية في الإجراءات الأمنية والقضائية.. إن هذا المواطن سوف يلجأ إلى هذا البرلمان كلما ضاقت به السبل لكي يجد لديه الحماية والأمان، وقبل هذا كله لا بد أن ندرك أن قضية الإرهاب وما يجري في سيناء وهذه الملحمة التي يخوضها جيش مصر على كل الجبهات تتطلب دعما شعبيا لا تراجع ولا تكاسل فيه.
< تبقى بعد ذلك مخاوف البعض من أشباح الصراع على السلطة خاصة هؤلاء الذين يحاولون تغيير دستور لم يبدأ تنفيذه بعد، وهذه المخاوف ليس مجالها الآن فنحن نعيش تجربة جديدة سوف تكشف الأيام سلبياتها وإيجابياتها في ظل مناخ جديد، نحن أمام رئيس دولة يتبرأ من كل العهود التي سبقته في غياب المسئولية واستباحة حقوق الشعب وعشوائية القرار وافتقاد المحاسبة والرقابة، كما أن البقاء في حكم مصر لم يعد يغري أحدا أمام هذه الأعباء المكدسة والأخطاء المتراكمة قد تحتاج الأمور إلى قدر أكبر من الحسم في بعض القضايا المعلقة مثل التعليم والصحة والخدمات والأسعار، وقد تكون هناك قضايا أخرى لم يبدأ مشوارنا معها مثل ترشيد الخطاب الديني والإصلاح السياسي والوعي الثقافي، وقد تكون هناك قضايا تحتاج إلى قدر أكبر من الشفافية والأيدي النظيفة مثل التصالح مع أصحاب الأموال الهاربة واسترداد حق الشعب وتكاسل رجال الأعمال في خدمة الوطن والضرائب المتأخرة ووقف نزيف الأراضي وتجارة العملة.. والتفاوت الطبقي الرهيب في مكونات الشعب المصري وقبل هذا كله مواجهة حقيقية مع منظومة الفساد التي أرهقت هذا الوطن وبددت ثرواته أمام التحايل وغياب الضمير.. كل هذه القضايا تحتاج إلى الوقت ولكن المهم أن نبدأ.
ربما جاء البرلمان على غير ما تمنينا ولكن هذا هو حصاد السنوات العجاف ما بين بقايا نظام رحل بكل أخطائه وخطاياه ونظام سرق الثورة وقسم الشعب وأوشك أن يعيدنا للوراء عشرات السنين.. إن هذه الثمار المرة تحتاج بعض الوقت لكي ننقّي ماء النهر وقبل هذا تنقية النفوس والضمائر.
لقد شهد البرلمان الجديد كل مظاهر الفوضى والانفلات قبل أن يبدأ، كانت هنا كرشاوى انتخابية لم تشهدها مصر من قبل، وكان هناك دفاع مستميت عن مصالح قوى مالية واجتماعية لا ترى أحدا سواها، وقبل هذا كله كانت العودة غير المباركة لرموز العهد البائد، وهؤلاء جميعا يمثلون خطرا حقيقيا على مصر الشعب والسلطة والمستقبل وصاحب القرار.
..ويبقى الشعر
لا تَسألوني الحُلمَ أفلسَ بائعُ الأحلامْ
مَاذا أبيعُ لكم؟
وصوتِي ضاعَ واخْتنقَ الكلامْ
ما زلتُ أصرخُ في الشوارِعِ
أوهمُ الأمواتَ أنَّي لمْ أمُتْ كالناسِ
لم أصبحْ وراءَ الصمتِ شيئاً من حُطامْ
مَا زلتُ كالمَجنونِ
أحملُ بعضَ أحلامِي وأمضِي في الزحَامْ
********
لا تسألونِي الحُلمَ
أفلسَ بائعُ الأحلامْ
فالأرضُ خاويةٌ
وكلُّ حدائِق الأحْلامِ يأكلهَا البَوَارْ
مَاذا أبيعُ لكمْ..؟
وكلُّ سنابلِ الأحلام ِفي عيني دمارْ
ماذا أبيعُ لكُم؟
وأيامِي انتظارُ.... في انتظارْ
إنَّي سئمتُ زمانكُم
وسَئمتُ سُوقَ البيعِ
والحلمَ المُزيفَ.. والرقِيقْ
وسئمتُ أن أبقَى أمام النَّاسِ دَجالاً
أبيعُ الوهمَ في زمنٍ غَريقْ
كلُّ الذي قلناهُ كانَ ضلالةً
كـَذبًا وزيفًا.. وادعَاءْ
مَا زلتُ أسألُ هلْ تُرَى
حَفروا القبورَ ليدفنُوا الموتَى.. أمِ الأحيَاءْ؟
********
لا تَسألُونِي الحُلمَ
أفلسَ بائِعُ الأحلامْ
ما عَادتِ الكلماتُ تُجدِي
بَارتِ الكَلمَاتُ.. وانفضَّ الَمزَادْ
النار تأكلنا فهل تُجدِي
حكايَا الوهْمِ.. والدنيَا رمادْ؟
أأقولُ صبرًا؟
ليسَ في الدُنيَا بَلاءٌ غيرَ صبرِ الأبْرياءْ
أأقولُ حُزنًا؟
ليسَ في الدُّنيَا كَحزنِ الأشْقياءْ
أأقولُ مَهْلاً؟
ضَاعَتِ الأيَامُ مِنْ يَدنَا هَبَاءْ
********
لا تسْألونِى الحُلمَ
قومُوا مِنْ مَقابركُم.. وثُورُوا
أحرقـُوا الأكْفانَ في وَجْهِ الطغَاةْ
كُونُوا حَريقًا.. أو دَمَارَا
لا تجعلُوا قبرِي ككلَّ النَّاسِ
صَمتًا.. أو دُموعَا
ما زلتُ أرفضُ أن أمُوتَ اليومَ حيّا
كُلنا مَوتَى..
وليسَ الآنَ للمَوتى حَياةْ
ولتحفروا قبري عميقا
وادفنونِي وَاقِفًا
حَتَّى أظلَّ أصِيحُ بَيْنَ النَّاسِ
لاَ تَحنُوا الجبَاهْ
مُوتُوا وقُوفَا
لا تمُوتوا تحتَ أقدَامِ الطغاةْ
قصيدة بائع الأحلام سنة 1989
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة