كانت مفاجأة لطيفة وأنا في السيارة عائد من واشنطن إلى نيويورك، حين اتصل بي شيخ معروف في نيويورك؛ ليقول لي: "هابي ثانكسجيفينج".
كانت مفاجأة لطيفة وأنا في السيارة عائد من واشنطن إلى نيويورك، حين اتصل بي شيخ معروف في نيويورك ومدير أحد المراكز الإسلامية بها؛ ليقول لي: "هابي ثانكسجيفينج"، بما يعني التهنئة بعيد الشكر في الولايات المتحدة.
وقبل المزيد عمَّا دار في المكالمة، أوضح أولًا أن هذا العيد يحتفل به الأمريكيون سنويًّا يوم الخميس الرابع من شهر نوفمبر، وهو يعود للقرن السابع عشر، يُعبِّر فيه الناس عن تقديرهم لما لديهم من نِعَم، بصرف النظر عن أية ظروف صعبة يمرون بها، فهناك دائمًا أشياء يجب أن نكون شاكرين عليها.
وكانت البداية على الأغلب مع الاحتفالات بالحصاد وقدوم المهاجرين البريطانيين، وحتى لو كان لها أصل ديني، فإنها مثل الهالوين يُحتفى بها بمفاهيم علمانية، ويشارك فيها الأمريكان من كل الأديان أو حتى الملحدون. الظاهرة الأهم في هذه المناسبة هي حرص الأُسر على التجمع، والشعور بدفء وحميمية تلك العلاقات الإنسانية الخاصة التي أحيانًا ما تضعف أو تتوارى وسط انشغالات الحياة أو سفر الإخوة والأبناء إلى بلاد بعيدة، لكن يبقى حرص الجميع على الالتقاء في هذا اليوم.
ربما يفسر ذلك وجودي على الطريق يوم الخميس، لأنني وجدت من الصعب السفر الأربعاء؛ بسبب ازدحام الطرق بمن يريدون السفر إلى منازل عائلاتهم.
أعود هنا -بعد هذا الاستطراد- إلى إمامنا الجليل الذي اتصل بي للتهنئة. حيث قاطعته ضاحكًا بأنه يهنئني "بعيد الكفار"، وقلت له ساخرًا مما يتردد أحيانًا على ألسنة المتطرفين المسلمين: إوعى تكون بتهني النصاري كمان في أعيادهم!
وقد علق الرجل بأنه يكون عادة أكثر حرصًا على مثل هذه التهنئة، كنوع من تحدي الخرافات التي يرددها هؤلاء، والقول بتعارض هذه المناسبات أو التهنئة بها مع الإسلام. ثم أوضح لي أن المسلم أولى بالاحتفال بمناسبة مثل عيد الشكر؛ لما فيها من معانٍ جميلة يجب الحرص عليها.
وقد سألت نفسي بعدها: ماذا لو أن كل مشايخ المسلمين من هذه النوعية المتفتحة القادرة على استيعاب العصر والثقافات الأخرى والتفاعل معها، هل كان يمكن أن يتدهور حال المسلمين إلى ما هو عليه الآن؟
المضحك المؤسف أن كثيرًا من الناس ينظرون بسخرية إلى مثل هذا السلوك، وتعتبره دينًا مخففًا أو بعيدًا عن صحيح الدين. وهذا ليس جديدًا، فقد سمعت يومًا الشيخ العالم أحمد حسن الباقوري يُنبِّه إلى أن الناس تثق أكثر بالشيوخ الذين يُضيِّقون عليهم حياتهم، ويجعلون أصل الأشياء التحريم، بينما تقل ثقتهم بمن ييسر عليهم الأمور ويبحث لهم عن مبررات التحليل، والنتيجة أن كثيرًا من رجال الدين يحتفظون لأنفسهم بالفقه الميسر حفاظًا على سمعتهم الدينية.
اعتقادي هو ضرورة إفساح المجال بشكل أكبر أمام مثل هذا الشيخ في نيويورك. فهو عالم بدينه وحاصل على درجة الدكتوراه في الفقه، لذلك فهو يفهمه بشكل ناضج ومتطور بعيدًا عن التنطُّع أو تمسك البعض المظهري بنصوص لا يفقهون تأويلها.
المشكلة أن وسائل الإعلام وكثيرًا من القنوات الدينية مكتظة بهذا النوع الثاني من الشيوخ أو المتعالمين. وحتى الفقهاء المعتدلون كثيرًا ما يترددون في إبداء آرائهم؛ خوفًا من الهجمات المضادة، واتهامهم بالمتاجرة بالدين أو التشكيك في ورعهم ودينهم.
ومن هنا يجب تشجيع هذه النوعية من الأئمة وحمايتهم مما يتعرضون له من اتهامات، فهذا هو الطريق الوحيد للخروج من مأزق الفقه الداعشي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة