عاشت الشعوب الغربية محرومة من الحرية والتفكير طيلة قرون كان أسوأها في العصور الوسطى تحت سيطرة الكنيسة والملكيات المطلقة،
يجعل الفكر الغربي من "الحرية" عمادا لمنظومته القيمية في مختلف المجالات، ويعود ذلك إلى مجموعة من التراكمات التاريخية والخلفيات السوسيو-ثقافية، فقد عاشت الشعوب الغربية محرومة من الحرية والتفكير طيلة قرون كان أسوأها في العصور الوسطى تحت سيطرة الكنيسة والملكيات المطلقة، وانتقل التعطش للحرية لما عرف بالعالم الجديد بعد اكتشاف الأمريكيتين وهجرة الآلاف هربا من الاضطهاد الديني والعوز المادي باحثين عن أرض جديدة لتحقيق أحلامهم بالحرية الدينية والفكرية والاقتصادية والسياسية.
ولو عدنا للتاريخ لوجدنا أنه منذ حركة الإصلاح الديني وعصر الأنوار أو التنوير كانت الحرية هي محور النضال والتفكير سواء حرية الدين والمعتقد وجعل التدين أمرا شخصيا من خلال الكنيسة البروتستانتية ومؤسسيها الأوائل أو حرية الفكر من خلال إعادة الاعتبار للعقل مع إسهامات الحركة الإنسية (L’humanisme) ورواد عصر الأنوار، فالتطلع للحرية كان العامل المحدد للمسار الفلسفي والفكري والأيديولوجي والثوري للعقيدة الفكرية الغربية، وهذا ما جسدته الثورة الإنجليزية المجيدة ومن بعدها حرب الاستقلال الأمريكية والثورة الفرنسية، حتى إن الليبرالية التي شكلت خلاصة المخاض الفكري والثوري الطويل في تاريخ الغرب تستمد أصل تسميتها من كلمة "حر" (Libre) أو "حرية" (Liberté).
ولا أحد ينكر اليوم المستويات الكبيرة للحريات التي وصلتها الأمم الغربية في أوروبا وأمريكا وكندا، وهو ما نلمسه في الجوانب كافة كالحرية الاقتصادية والتنافسية اللامحدودة والملكية الخاصة، وحرية سياسية في مجال التعبير واختيار المنتخبين والمشاركة في الحياة السياسية، والحرية الشخصية المتعلقة بالشأن الفردي، ولكن التهديدات الإرهابية المتلاحقة أصبحت تهدد تلك الحريات وتضعها على المحك، وينتشر تخوف كبير من تحول الحريات إلى ضحية لحالة الخوف وأن تقدم كقرابين على مذبح الأمن المنشود.
فبعد هجمات باريس توالت القرارات التي تشكل تضييقا على الحريات بحجة مواجهة الخطر الإرهابي ومنع تكرار مثل تلك العمليات، فتم إعلان حالة الطوارئ وتمديدها لمدة ثلاثة أشهر مع كل ما يمنحه فرض هذه الحالة من قدرة على القيام بإجراءات استثنائية تتناسب مع طبيعة التهديد المسجل، وهو إجراء لم تشهده فرنسا منذ الثورة الجزائرية المعروفة بحرب الجزائر في الأوساط الفرنسية، وبناء على ذلك تمنح صلاحيات واسعة للجهات الأمنية كفرض الإقامة الجبرية على كل من يشتبه في تشكيله لتهديد على الأمن القومي، وإطلاق يد الأجهزة الأمنية في القيام بعمليات تفتيش ومداهمة دون الحاجة لتراخيص قضائية من النيابة العامة والسلطات القضائية المختصة، وطلب الرئيس السماح بإجراء تعديلات دستورية لمواجهة الإرهاب الحربي، وحظر جميع المواقع التي يشتبه في توجهها المتطرف، ومنح حتى صلاحيات بالرقابة على الإعلام وعلى النشر، ناهيك عن الإجراءات الفورية التي تم اتخاذها عقب الهجمات مثل منع التظاهر في العاصمة باريس إلى غاية نهاية شهر نوفمبر، والإغلاق المؤقت لأماكن التجمعات وقاعات الحفلات، وغلق الحدود.
وانخرطت أوروبا ككل في هذا الهوس الأمني حيث نقلت فرنسا هواجسها نحو جيرانها الأوروبيين وشركائها في الاتحاد الأوروبي، أين تم تعليق العمل بتأشيرة شينغن للأجانب الراغبين في زيارة باريس واستثناء المواطنين الأوروبيين من ذلك، وفرض بلجيكا لقيود على الوصول برا وبحرا وعبر القطارات من فرنسا، واتخاذها لإجراءات مشددة ووقف حركة القطارات والمترو وكافة النشاطات في العاصمة بروكسل بسبب وجود معلومات تخص التحضير لعمليات كبرى في بروكسل مماثلة لتلك التي شهدتها باريس، وذهب "مانويل فالس" رئيس الوزراء الفرنسي بعيدا حين طلب من نظرائه في الاتحاد فرض إجراءات أكثر صرامة فيما يخص حرية تنقل الأشخاص في الاتحاد ، وإعادة النظر في اتفاقية شينغن في حال ما لم تتحمل الدول الأوروبية مسؤوليتها كاملة في تامين حدودها، يضاف ذلك إلى تهديد الرئيس الفرنسي بالعودة إلى الحدود القومية في حال استمرار التراخي وعدم التنسيق الأوروبي في مسألة انتقال الأشخاص عبر تراب الاتحاد.
وهذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها مقايضة الحرية بالأمن مع وجود قابلية واسعة لدى الأوروبيين وحتى الأمريكيين لهذا الأمر وكأن لسان حالهم يقول "أعطونا الأمن وخذوا حريتنا"، وهو ما يصب في صالح السلطات التي تجد في ذلك فرصة لتمرير سياساتها التضييقية، وقد عبّر "جاك بو" عن هذه الحالة خير تعبير حين قال: "تقليص الحريات المدنية مقابل الأمن كان دوما تجارة مربحة، ومن حيث المبدأ فالحرية والأمن شيئان متعارضان باستمرار، ولكن حين تلوّح الحكومات بخطر كبير كالإرهاب تقبل الشعوب بالتضحية بجزء من حرياتها الشخصية"، ودعم المحرر "سونتاغس ستايتونغ" هذا الطرح بقوله: "الأمن أولا، هذا هو الاستنتاج الحزين بعد هذا اليوم الأليم في باريس".
وقد كانت أحداث 11 سبتمبر 2001 صورة عاكسة بجلاء لقمع وحصر الحريات في زاوية ضيقة مقابل توسيع هامش الأمن كي يحتل المجال الأوسع في الحياة اليومية للمواطنين، بفرض الرقابة على الحركة والتنصت على الاتصالات والمكالمات الهاتفية والرقابة على البريد الإلكتروني والمراسلات المختلفة والإنترنت، وحق الاعتقال والإيقاف إداريا بمجرد الاشتباه ولمدة غير محدودة، وهو ما دفع بكاتب افتتاحية "لوموند ديبلوماتيك" آنذاك الصحفي "إيغناسيو راموني" لانتقاد تلك الإجراءات بعنونة مقاله الافتتاحي في ذات المجلة في جانفي 2002 بـ "وداعا للحريات"، أين أوضح أنه وباسم الحرب العادلة تم فجأة نسيان كل الأفكار والقيم الجميلة.
وإذا عدنا للخلفية الفلسفية لما تشهده الحريات من تضييق في الغرب، فيمكننا تلمس جذور ذلك في التراث الغربي من خلال كتابات الإنجليزي "توماس هوبز" الذي اشتهر بكونه أحد رواد نظرية العقد الاجتماعي، وقد بنى نظريته حول الخوف ودوره في بناء المجتمعات السياسية والانتقال من الحياة البدائية الفطرية إلى الحياة السياسية المنظمة، منطلقا من افتراض أن حالة الفوضى التي كانت تعرفها حياة الإنسان ما قبل تشكل المجتمعات السياسية جعلته يحيا في حالة من الخوف على نفسه، لذلك قرر الناس التنازل عن حريتهم لصالح سلطة أعلى تضمن لهم الأمن والحياة الآمنة في مقابل تخليهم عن الحرية التي لم تغنهم عن حاجتهم الملحة للأمن، وها هي ذي نظرة "هوبز" الأمنية والتشاؤمية تعود من جديد بسبب حالة الفوضى والتخبط والهلع التي تعيشها المجتمعات الغربية بسبب خطر الإرهاب، لتتراجع فكرة الحرية فاسحة المجال لسلطان الأمن المتنامي بقدر تنامي الخوف لدى مجتمعات تقدس الحرية ولكن تقديسها للحياة والبقاء أكبر، وعلى خطى "توماس هوبز" الذي قال ذات يوم "أنا والخوف توأم" أصبح الغرب الآن هو والخوف توأم وتراجعت الحريات إلى حين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة