مازلت أرى فى بلادنا نخبة مستنيرة تسعى مخلصة نحو مستقبل أفضل؛ حالمة بتنوير وفقا لنموذج أوروبى
مازلت أرى فى بلادنا نخبة مستنيرة تسعى مخلصة نحو مستقبل أفضل؛ حالمة بتنوير وفقا لنموذج أوروبى كان بمثابة الرافعة للتقدم؛ وتدفعها تخوفاتها من هاجس الدولة الدينية إلى التشكك والنفور من استدعاء التأويلات الدينية الوسطية الأقرب إلى المزاج الشعبى الجماهيرى المصري؛
ولعلها بذلك تتجاهل أن أفكار جاليليو التى حاربتها الكنيسة الكاثوليكية فى البداية لم تستقر فى وجدان الجماهير الأوروبية لتصنع تقدمها إلا بعد قبول الكنيسة لقاعدة تأويل النص الدينى التى وضع أساسها ابن رشد.
ولقد كتبت يوما عام 2006 قبل عصر ثورات الربيع بسنوات طوال، كيف اجتذبنى الفكر الماركسى فى مطلع شبابى كما اجتذبنى قبله فكر الإخوان المسلمين، وكنت بيقين الشباب وحماسهم أؤمن بأننى بأفكارى سواء كانت إخوانية أو ماركسية أمثل الشعب المصري، أو إذا ما التزمت قليلا التواضع فإنها تمثل غالبية هذا الشعب.
وأشرت إلى أننى ما زلت أذكر مساء الأول من أغسطس عام 1960 بعد أن تمت تصفية معسكر التعذيب فى أوردى ليمان أبو زعبل لتنقلنا سيارات الترحيلات إلى معتقل الواحات. اخترقت السيارة وسط القاهرة. وكان بوسعنا أن ننظر من فجوات نوافذ السيارة إلى شوارع القاهرة التى كان يخيم عليها المساء، وهناك من يسيرون هنا وهناك، وثمة أضواء تلمع داخل المنازل حيث يمكن أن نلمح مظاهر الحياة تمضى فى هدوء كأن شيئا لم يحدث.
كانت جلستى فى السيارة إلى جوار الصديق الراحل فيليب جلاب الذى أصبح صحفيا ونقابيا معروفا بعد ذلك، وهمس فيليب فى أذني: أين تلك الجماهير التى ضحينا ونضحى من أجلها؟ ولماذا تبدو لامبالية إلى هذا الحد؟ وظل ذلك التساؤل يؤرقنى وربما يؤرق غيرى طوال 1383 يومًا قضيتها متنقلا بين المعتقلات ومعسكرات التعذيب.
كان تفسيرنا لذلك الصمت الجماهيرى آنذاك هو أن السلطة قد زيفت وعى الجماهير بحيث لم تعد تعى مصالحها الحقيقية، أو أنها نجحت فى إثارة الرعب لدى الجماهير بحيث أرغمتها على الصمت.
ولم يرد إلى الذهن فى ذلك الزمن البعيد أن اتهام الجماهير بالغفلة أو الجبن إنما يعنى التسليم بأن أفكارنا لا تعبر سوى عن نخبة مهما بلغت من النقاء والإخلاص فإنها بعيدة عن مشاعر وأفكار تلك الجماهير، ولم يخطر على البال قط أننا ربما أخطأنا فى اختيار النغمة الصحيحة لمخاطبة الجماهير، ومن ثم فإن تلك الجماهير لا ترى أننا نمثلها حقا.
عجزت طوال أيام الاحتجاز عن إعادة النظر فى أفكاري، وربما يرجع ذلك إلى حقيقة تؤكدها دراسات علم النفس السياسى مؤداها أن نقد الذات تحت سياط التعذيب يهدد بانهيار هوية الضحية إلا لمن أوتى صلابة تفوق قدرة البشر ولم أكن بحال من هؤلاء؛ فاحتفظت بالتزامى إلى أن تنسمت رياح الحرية.
استرجعت كل ذلك وانا أشهد ما يجرى اليوم على ساحتنا السياسية: العديد من شرفاء المثقفين أفرادا وجماعات لا أشك لحظة فى حبهم للوطن وإخلاصهم له وأنهم يحلمون له بمستقبل أفضل ويرصدون قائمة حقيقية من السلبيات التى يحفل بها هذا الوطن، وتعانى منها الجماهير، ويتوقعون أن يكون الشعب فى حالة غليان لا ينقصه سوى طليعة مخلصة شجاعة تمضى به ومعه إلى مستقبل أفضل. وكثيرا ما تفاجأ تلك الطلائع المثقفة المخلصة بافتقاد الزخم الجماهيرى الذى توقعته، ويجتهد الجميع فى البحث عن سبب يفسر ذلك فلا يجد البعض أمامهم سوى إدانة السلطة بالتضليل والقهر واتهام الجماهير بالغفلة والجبن والاستكانة للظلم والاستسلام للفساد والمفسدين. نفس القصة القديمة تكاد تتكرر.
ويبقى سؤال ينبغى أن تبحث له تلك الطلائع عن إجابة: ترى إلى أين يؤدى بها ذلك التفسير؟ ما هو الموقف من جماهير نراها استسلمت للقهر طوعا أو كرها وأولت ظهرها لمصالحها وللسلطة وللمعارضة على حد سواء؟.
لقد خلصت فى مقالى القديم إلى أن السيناريوهات المتاحة آنذاك كانت تبدو محدودة:
السيناريو الأول: الرهان على قوة خارجية تقوم قسرا بمهمة التغيير، وأمامنا تطبيقات عملية لذلك فى العراق وأفغانستان.
السيناريو الثاني: الرهان على قوة داخلية مسلحة تنتزع السلطة بالقوة لتقوم بالمهمة المطلوبة.
السيناريو الثالث: أن يقدم الجميع على مراجعة مواقفهم الفكرية دون تعال على الجماهير، فقد يكون الخطأ فى قراءة واقعها الاجتماعي، أو فى طبيعة الخطاب الموجه إليها.
وأكدت فى نهاية مقالي، أن ذلك السيناريو الأخير يحتاج قدرا كبيرا من الشجاعة والصبر والتواضع، ولذلك فإنه قد لا يكون السيناريو المفضل سواء لدى تلك الطلائع المحتجة أو لدى المدافعين عن النظام القائم؛ ولكنه فى النهاية هو السيناريو الوحيد الذى يمكن أن يجنب الجميع مخاطر الفوضى والقهر وقبل كل ذلك مخاطر التدخل الأجنبي، وهى مخاطر لا قبل لأحد بتحمل نتائجها.
ترى هل طرأ تغير استراتيجى كبير على ما طرحناه من سيناريوهات آنذاك؟ أم أن ماجرى يؤكد ذلك؟ لم يكن أمام ثوار يناير سوى الاستناد للجيش للإطاحة بالنظام؛ ثم الاستناد إليه مرة أخرى للإطاحة بحكم الإخوان المسلمين؛ وبعد أن ترك الرئيس السيسى صفوف القوات المسلحة خالعا بذلته العسكرية لينتخب رئيسا للجمهورية؛ مازال العديد من النخب المصرية المثقفة يراوحون أماكنهم الفكرية محكومين بهاجس الخوف من الدولة الدينية وهاجس التخوف من غلبة طابع عسكرى على الحكم يتغول على حقوق الإنسان دون أن تترك لهم تلك الهواجس مكانا لمحاولة الإجابة على السؤال الأهم: أين تقف الجماهير؟ ولماذا؟
*- نقلاً عن جريدة الأهرام.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة