تعرضت العلاقات الأمريكية - الإسرائيلية لأزمتين خطيرتين خلال الخمسينيات والثمانينيات، كان من الصعب تجاوزهما بسهولة.
تعرضت العلاقات الأمريكية - الإسرائيلية لأزمتين خطيرتين خلال الخمسينيات والثمانينيات، كان من الصعب تجاوزهما بسهولة.
ففي مطلع الخمسينات ظهر اسم جوليوس روزنبرغ وزوجته أثيل على قائمة المتهمين بالتجسس لصالح الاتحاد السوفياتي. وبما أنهما كانا منخرطين في صفوف الحزب الشيوعي المحظور ويعملان في الوقت ذاته مع دائرة الهندسة في الجيش الأمريكي، فقد حرصا على تمرير كل المعلومات السرية المتعلقة بصناعة القنبلة الذرية إلى موسكو. وقد لعب شقيق أثيل، الرقيب ديفيد غرينغلاس، دور الوسيط في تلك العملية باعتباره كان مكلفاً بالاشتراك في مشروع المفاعل النووي القائم في "لوس آلاموس". ومن المؤكد أن اختصاصه في علوم الكيمياء أهّله لهذه الوظيفة الحساسة.
وفي الوقت ذاته كانت هذه العائلة تعمل كفريق واحد بحيث إن أثيل وزوجها توليا مهمة نقل المعلومات بواسطة ساعي بريد يدعى هاري غولد. وكان هاري ينقلها بدوره إلى أناتولي ياكوفليف، نائب القنصل السوفياتي في مدينة نيويورك.
جهاز الاستخبارات الأمريكي اكتشف هذه الخلية الناشطة واعتقل أفرادها في 23 أيار (مايو) 1950. واستمرت المحاكمة حتى 6 آذار (مارس) 1951. وبعد اعتراف جوليوس وأثيل بالذنب، أدانتهما المحكمة وأصدرت عليهما حكماً بالإعدام.
وكان من المنطقي أن تتحرك الجالية اليهودية، وتنظم حملات إعلامية للدفاع عنهما، وطلب تخفيف الحكم إلى المؤبد. ولكن المحكمة الجنائية رفضت التراجع، الأمر الذي فرض على وزير العدل تنفيذ حكم الإعدام في سجن "سينغ - سينغ".
الأزمة الثانية حدثت سنة 1985، أي يوم اعتقال جوناثان بولارد الذي كان يعمل محللاً في البحرية الأمريكية. وقد اتهِمَ في حينه بتزويد إسرائيل بآلاف الوثائق السرية، التي اعتُبِرَت في نظر قاضي التحقيق جريمة من النوع الذي يهدد الأمن القومي الأمريكي، علماً بأن الولايات المتحدة وإسرائيل تقيمان علاقات استراتيجية عميقة على الصعيدين السياسي والعسكري.
يقول بنيامين نتانياهو إن الوثائق التي نقلها بولارد إلى إسرائيل ساعدت على تفجير مقر منظمة التحرير الفلسطينية في تونس سنة 1985. كما ساعدت أيضاً على اغتيال أبو جهاد الذي حرّك الانتفاضتين داخل الضفة الغربية والقدس الشرقية.
ولكن هذه الوثائق كانت في غاية الأهمية بالنسبة إلى إسرائيل، كونها سربتها إلى الصين التي استفادت منها على صعيد التكنولوجيا المتقدمة. لهذا اعتبر مدير الاستخبارات المركزية السابق جورج تينيت أن جريمة بولارد لا تُغتَفَر، وأنه على استعداد لتقديم استقالته في حال نجحت ضغوط اللوبي اليهودي في تخفيف عقوبة السجن المؤبد.
بعد مرور ثلاثين سنة، نجحت المساعي الديبلوماسية في الإفراج عن جوناثان بولارد. ولكن إدارة أوباما قيدت عملية الإفراج بعدة شروط ملزِمة أهمها:
أولاً - لا يُسمَح له بمغادرة الولايات المتحدة إلا بعد مرور خمس سنوات. ثانياً - أنه في حال السفر بجواز سفر إسرائيلي فإن جواز سفره الأمريكي يسقط عنه تلقائياً.
والثابت أن بولارد ارتضى التخلي عن جنسيته الأمريكية لاعتبارات تتعلق بانتمائه الديني. وهكذا أكد بما لا يقبل الشك أن كل مواطن أمريكي يهودي مستعد لاختيار إسرائيل وطناً نهائياً.
عقب صدور الحكم عليه بالسجن المؤبد، ومعاقبة زوجته "آن" بخمس سنوات حبس، صدر في الولايات المتحدة كتاب ضخم تحت عنوان: "مقاطعات الكذب". ولم يكن المؤلف سوى وولف بلتزر، مراسل صحيفة "جيروزالم بوست" و"نيويورك تايمز" وهو حالياً يعمل في قناة "سي إن إن".
النقاد الذين راجعوا الكتاب اكتشفوا فيه معلومات وفرتها الاستخبارات الإسرائيلية، تحمل كل الأسباب التخفيفية لتبرير العمل الذي قام به بولارد. خصوصاً أن المؤلف لم يكتشف عنصر الإساءة ما دام اللوبي اليهودي يطلع تقريباً على كل شاردة وواردة في مؤسسات الإدارة الأمريكية.
في الفصل المتعلق بانزلاق بولارد إلى هوة الخيانة، يقول المؤلف بلتزر إن السفارة الإسرائيلية باشرت الاتصال به عبر هاتف عمومي خوفاً من المراقبة.
وفي أول مكالمة طلبت محدثته على الطرف الآخر "سالا" أن ينقل إليها وثائق معينة ويضعها في عنوان خاص يقع في ماريلاند. وسرعان ما اكتشف بولارد أن العنوان المذكور لم يكن سوى مسكن القنصل الثقافي إيلان رافيد، الذي يعمل في سفارة إسرائيل في واشنطن.
ومع تكرار تلك التجربة، كان على بولارد أن يسافر إلى باريس وينزل في فندق هيلتون الفخم بغرض لقاء أحد أنسبائه. ولم يكن ذلك النسيب سوى رافي ايتان، رئيس فرع الاستخبارات الإسرائيلية الخارجية.
وبما أن بولارد كان مولعاً بجمع المال، فقد نفحه رئيسه الجديد في "الموساد" عشرة آلاف دولار كثمن للوثائق التي قدمها له حول آخر صفقة سلاح روسية وصلت إلى دمشق!
بعد خدمة طويلة تميزت بالسرية التامة، اكتشفت الـ"إف بي آي" الدور المريب الذي يلعبه جوناثان بولارد. ووصفه وزير الدفاع كاسبار واينبرغر بأنه من أخطر الأدوار التي عرّضت الأمن القومي الأمريكي للأذى والاختراق التام. لهذا استحق عليه حكماً يقضي بسجنه مدى الحياة. بيد أن ضغوط اللوبي اليهودي ووساطات بعض شيوخ الكونغرس، نجحت في تخفيف العقوبة والاكتفاء بمدة ثلاثين سنة.
ويبدو أن الرئيس باراك اوباما اشترط عدم الإعلان عن قرار الإفراج كانتصار معنوي، والاقتناع بإصدار نشرة مقتضبة خوفاً من إثارة الموضوع عبر وسائل الإعلام الأمريكية والعالمية. ولكن هذا الشرط لم يمنع الصحف من التشكيك بحجم الصفقة التي عقدها الرئيس الأمريكي مع رئيس الحكومة الإسرائيلية، والتي تمنع نتانياهو من التدخل في أزمات المنطقة. أي الأزمات التي فرضت تورط روسيا وتركيا وبعض الدول الأوروبية.
وترى الإدارة الأمريكية أنه في حال تدخلت إسرائيل في النزاعات المحتدمة، فإن الكل ينسى "داعش" ويلتفت إليها، باعتبارها تمثل العدو التاريخي لكل المتقاتلين الإقليميين. وهذا ما أقلق وزير الخارجية جون كيري الذي أعلن قبل اجتماعه برئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، أنه لا يطمح إلى إعادة الطرفين إلى طاولة المفاوضات، وإنما يتمنى عودة الهدوء إلى الساحة المشتعلة منذ أكثر من ستين سنة. وتردد في رام الله أن كيري حاول تشجيع عباس على تجديد خطوات السلام، لأن إسرائيل تريد الابتعاد عن هموم المنطقة. وردّ عليه عباس بأن الجانب الفلسطيني فعل كل ما هو مطلوب منه من أجل تحقيق عملية سياسية مثمرة... في حين فعل الجانب الآخر كل ما يعيق تقدم المفاوضات وينسفها.
والملاحظ أن "حماس" لم تطمئن إلى زيارة كيري، وإلى تصاريحه الفجّة بالنسبة للانتفاضة الفلسطينية الثالثة. وقد عبّر عن هذا التوجه الناطق باسم الحركة سامي أبو زهري، الذي انتقد الزيارة ورأى فيها استفزازاً لمشاعر الشعب المناضل. كذلك اعتبرتها القوى الإسلامية خطوة ناقصة بدليل أنها امتنعت عن ممارسة أي ضغط يُذكَر على أعمال العنف التي يمارسها المستوطنون.
عندما اجتمع الوزير كيري بنتانياهو طلب منه تجميد بناء المستوطنات إلى حين إعطاء السلطة الفلسطينية بعض السيطرة على ما تبقى من أراضي الضفة الغربية. وتظاهر رئيس الحكومة الإسرائيلية بالموافقة، مشترطاً اعتراف المجتمع الدولي بشرعية البناء في الكتل الاستيطانية. واعترض كيري على هذه المقايضة لأن الاعتراف بشرعية الكتل الاستيطانية معناه التنازل عن القرار 242، وعن مشروع الدولتين فوق أرض فلسطين التاريخية.
ويقول صائب عريقات، أمين سر منظمة التحرير، إن طروحات إسرائيل التعجيزية تمنع دائماً الولايات المتحدة من إحراز أي تقدم سياسي. ففي السابق استنبطت فكرة اعتراف الفلسطينيين بدولة اليهود كشرط لاستكمال محادثات السلام. وهذا معناه، في نظرها، طرد كل الفلسطينيين من الأرضي المحتلة وتحويل دولة إسرائيل إلى نظام "أبارتايد". كما يعني أيضاً تهجير مليون ونصف مليون فلسطيني.
ويُكمل عريقات تحليله فيقول: "إن اعتراف المجتمع الدولي بالكتل الاستيطانية يفتح المجال لإثارة حق إسرائيل باستكمال ضم ما تبقى من أراضي الضفة الغربية. ومثل هذه المراوحة السياسية تقودنا إلى حكاية الماعز والحاخام!".
الرئيس محمود عباس كرر أمام الوزير كيري رغبة نتانياهو في الاحتفاظ بغور الأردن، ضمن مشروع "دولة اليهود". وقال له إن "دولة فلسطين" حازت على 171 صوتاً في الجمعية العامة من أصل 194. وهذا الاستفتاء وحده كافٍ لممارسة ضغط أمريكي مؤثر على إسرائيل قبل فوات الأوان.
ويرى المراقبون في هذا التحذير فرصة أخيرة قبل أن يعتزل عباس، ويترك المجال لحماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية والجبهة الديموقراطية والقيادة العامة... وفتح الانتفاضة.
وربما تتمنى إسرائيل فوز هذه البدائل التي تعطيها فرصة رفض استكمال المفاوضات... كما تعطي واشنطن حق الامتناع عن مواصلة الوساطة!
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الإخبارية.*=
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة