في الأصل كانت الانتخابات والبرلمانات، ثم أتت الأحزاب، بسبب حاجة البرلمانيين للائتلاف والتنسيق في داخل البرلمانات
في الأصل كانت الانتخابات والبرلمانات، ثم أتت الأحزاب، بسبب حاجة البرلمانيين للائتلاف والتنسيق في داخل البرلمانات، ثم خارجها لأسباب تتعلق بالتخفيف من مصاريف الحملات الانتخابية وتنظيم ماكيناتها. ومع الوقت، وتحديداً منذ نهاية القرن التاسع عشر، بدأت أحزاب سياسية، ولاسيما الاشتراكية منها، بالظهور من خارج البرلمانات توخياً للوصول الى السلطة، أو لمجرد مراقبتها ومعارضتها وتسجيل الاحتجاجات على سياساتها.
وفي بدايات القرن العشرين تكرست الأحزاب السياسية كجزء من العملية السياسية، حتى أن الفقيه النمساوي كلسن قال، في العام 1911، إنه لا ديمقراطية من دون أحزاب سياسية، وإن من يكره الأحزاب السياسية فهو كاره للديمقراطية نفسها. وانتشرت النظم الحزبية في العالم كله تقريباً، وانقسمت الى أحادية حزبية، كما في الأنظمة الشيوعية، ثم النازية والفاشية، وثنائية كما في الولايات المتحدة وبريطانيا، وتعددية كما في بلدان كثيرة أخرى، وهذه الأنواع تضرب جذورها في تجارب وتطور وخصوصيات المجتمعات المعنية منذ نهايات القرن الثامن عشر.
القارة الأوروبية بالتحديد، هي موطن هذه التجارب والفكر السياسي الذي رافقها في مسيرة طويلة امتدت منذ الماكنا كارتا في بريطانيا، العام 1215، وكل أفكار مكيافيللي وبودان والعقد الاجتماعي (روسو وهوبس ولوك)، وفصل السلطات (مونتسكيو)، والنسبية مع احترام تمثيل الأقليات(ستيوارت ميل) وصولاً الى الشيوعية (ماركس وإنجلز) التي تفرعت منها الاشتراكية، واللائحة طويلة جداً. طبعاً رافق هذا التطور حروب ومجازر وتفتت دول، ثم إعادة توحيدها، وثورات شكلت منعطفات تاريخية كبرى ...إلخ، حتى وصلت النظم السياسية والحزبية الى ما هي عليه اليوم.
لكن الأحزاب السياسية في هذه القارة تعيش اليوم أزمة وجودية وكيانية غير مسبوقة. فمن انتخابات الى أخرى تزداد نسبة المقاطعين وأولئك الذين تعبر استطلاعات الرأي عن عدم ثقتهم بالسياسيين. وآخر هذه الاستطلاعات ما أجرته مؤخراً مؤسسة «سيغيفوب» الفرنسية الذي جاءت نتيجته أن 12% فقط من الفرنسيين يثقون بالأحزاب السياسية. هذه الأحزاب تقبع في أدنى مرتبة في لائحة مؤلفة من خمسة عشر تنظيماً، مثل النقابات (27%) ووسائل الإعلام (27%)..الخ. ثلث المستطلعين (67%) يعتبرون أن الديمقراطية في فرنسا لا تعمل كما يجب، والمسؤول عن ذلك كل الأحزاب السياسية من دون استثناء.
بقي من المهام الأصلية للأحزاب فعل اختيار المرشحين فقط . وهذه المهمة بدأت تتراجع مع التزايد المتنامي لاستطلاعات الرأي التي سحبت من الأحزاب حصرية هذا الاختيار. وهكذا أضحت الأحزاب مجرد آلات انتخابية تدور في فراغ، كما راحت تتقوقع في دور يقف عند حدود تطبيق الدستور، أي «المشاركة في الاقتراع العام». هذه «الماكنات» تبدو عاجزة عن إصلاح نفسها. وتبقى الأحزاب الكبرى المهيمنة، رغم كل شيء، في مكانها رغم أن كل شيء يتحرك في العالم.
«ليس هناك من ديمقراطية تمثيلية من دون أحزاب، لذلك ينبغي الدفاع عنها»، هذا ما يتفق عليه علماء السياسة. ولكن في هذه الظروف من الصعب الدفاع عن هكذا أحزاب لم تعد تملك ما تقدمه للمواطنين، كما يقول جيرار غرنبرغ مدير الأبحاث في المعهد الوطني للبحث العلمي في باريس.
المدافعون عن الأحزاب يقولون إن هذه الانتقادات ليست جديدة، بدليل ما كتبه عالم الاجتماع الألماني الإيطالي روبير ميتشلز في كتابه «الأحزاب السياسية والنزعات الأوليغارشية للديمقراطيات» الصادر في العام 1911، والذي يبرهن فيه كم أن الأحزاب غير شعبية على الإطلاق.
وهكذا، بالرغم من الشكوك التي أحاطت بها، ولا تزال، فإن الأحزاب باقية بقاء الاقتراع العام. لكن المجتمعات تغيرت وعرفت انقلابات عميقة لم تفلح الأحزاب في التكيف معها. وفي هذا الصدد يرتئي بييرو ايغنازي، الأستاذ في جامعة بولونيا أن «الأحزاب ولدت في رحم الثورة الصناعية، ومجتمعنا هو مابعد صناعي»، و«هذا التحول الى الفردانية والتذرر والقطيعة مع الصلات التقليدية التي كانت تجمع الأفراد من خلال المهن والأديان أو الطبقات الاجتماعية فاجأت الأحزاب التي كانت في الأصل تجسيداً للجماعي وتعبيراً عنه».
نقلاً عن "الخليج"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة