هذه الليبرالية تخضع الآن لتجاوزات شتى في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. يقود هذا الرأي مفكران بارزان
قبل عشرين عاماً أعلن تيار مهم في الغرب انتصار الليبرالية. أذكر أن كثيرين نعرفهم من مفكري الغرب والشرق، وبخاصة في عالمنا العربى انتقدوا هذا الإعلان، واعتبروه وهماً كبيراً، أو حلماً لن يتحقق. وبالفعل وعلى رغم مرور عشرين عاماً وأكثر، إلا أن انتصار الليبرالية لم يتأكد. انكشف الوهم ولم يتحقق الحلم. بل أستطيع، ومعي كثيرون يتزايد عددهم بمرور الوقت وتدهور الأوضاع السياسية في دول عدة، أن أؤكد أن العكس تماماً هو الذي حدث، فقد تراجعت الليبرالية وإن اختلف المفكرون السياسيون في تقدير مسافة التراجع. يعلن روجر كوين «موت الليبرالية» في مقال حديث له في صحيفة «نيويورك تايمز»، بينما آخرون، وأنا منهم، يعتقدون بأن الليبرالية وقعت أخيراً تحت الحصار، وجارٍ انحسارها وانكماشها في أنحاء شتى من العالم. تنحسر في أوروبا، من بولندا إلى تركيا مروراً بهنغاريا وبلغاريا وروسيا وأوكرانيا، وتنحسر في آسيا، وبخاصة في الهند، أما ميانمار فليست سوى استثناء يبدو بكل المقاييس عابراً.
هذه الليبرالية تخضع الآن لتجاوزات شتى في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. يقود هذا الرأي مفكران بارزان أعدا دراسة حول الموضوع وهما لاري دياموند ومارك بلاتنر. يعترف الباحثان بأن رُبع الديموقراطيات في العالم زالت خلال ربع القرن الأخير، ولمّحا إلى أن مسؤولية الزوال وانحسار الليبرالية عموماً يتحملها بدرجة كبيرة تيار «الليبراليون الجدد»، الذي فرض على الرأسمالية سلوكيات وأفكاراً اقتصادية أساءت إلى سمعة الليبرالية وشجَّعت الحكومات على تقييد الحريات والتدخل في حياة الأفراد العاديين.
الواقع شاهد على أن المسألة أعمق شيئاً ما عما يطرحه دياموند وزميله، فالتاريخ كما نعرف حافل بمراحل سيطر فيها الحكام وهيمنوا وفرضوا التعتيم أو القمع أو كلاهما معاً على الرأى العام وعلى أنشطة التيارات السياسية كافة، والمعارضة خصوصاً. نعرف مثلاً أن في التاريخ كثيرين من الحكام طرحوا وما زالوا يطرحون حقهم الإلهي في الحكم. جاؤوا بإرادة ومشيئة عليا، أو سعدوا في نومهم بزيارة رؤى وأحلام تحضهم على الحكم منفردين. لا نذهب بعيداً، إذ إن فلاديمير بوتين مثلاً اقترب من ادعاء هذا الاعتقاد كمبرر لسلطويته، وكذلك وإن في شكل مختلف حاول رئيس الوزراء الهندي نارندرا مودي الايحاء بأنه مبعوث العناية المقدسة ليفرض فهمه لعقيدته نظاماً أوحد ومرجعية للحكم تسبق الدستور والنظام الديموقراطي. وهنا في عالمنا العربي، لا تخفي تصرفات بعض الحكام العرب، وفي دول الجوار الإسلامي، انتماءهم إلى هذا النوع من التفكير الديني والسياسي.
هناك أيضاً الزيادة الملموسة في حكام جمهوريين اسماً، لكن يرفضون فعلاً الرحيل عن مناصب الرئاسة قبل أن يضمنوا لأولادهم وراثتهم في الحكم. هذا النوع أيضاً يُفَضِّل كبت الآراء السياسية الأخرى ومطاردة المنافسين والساعين للوصول إلى السلطة. كنا شهوداً على انقلابات وثورات وفوضى شاملة في عدد من الدول حاول حكامها توريث أبنائهم، وكان سبيلهم إلى ذلك فرض قوانين قمعية ومحاصرة الأفكار الليبرالية. وإن نسينا، فلن ننسى أن بعض الحكام، ومنهم حكام عرب، أصابهم مس من جنون العظمة أو داء الفزع والخوف من الجماهير أو سيطرت عليهم قوى «خفية» أو يؤمنون إيماناً عميقاً بالمؤامرة الدولية التي تسعى الى إسقاطهم. هؤلاء زاد عددهم وكان حظنا منهم في العالم العربي وفيراً، وهم من دون استثناء طاردوا الليبرالية ووضعوا المعارضين في السجن، وأقاموا المحارق للكتب، وخرقوا حرمات النقابات، وفرضوا الرقابة على الطلبة والأساتذة. وكلهم أيضاً ومن دون استثناء شَنّوا حملة شرسة ضد المنظمات غير الحكومية ومنظمات المجتمع المدني، متهمين بعضها بالخيانة لتلقّيها تمويلات أجنبية وتهديد الأمن الاجتماعي والسياسي.
لدينا، في عالم اليوم ديموقراطيات قديمة تقاوم الانحسار كالذي تشهده دولة اعتبرها الغرب لوقت طويل أكبر ديموقراطيات العالم وهي الهند، ومع ذلك، فإن هذه الديموقراطيات التي ما زالت تقاوم، ترتكب هي نفسها تجاوزات خطيرة تحد من نفوذ المذهب الليبرالي وتضيِّق المنافذ على الليبراليين. في أميركا مثلاً ودول أوروبا الغربية تجاوزات وصلت إلى حد التدخل السافر في حيوات الناس اليومية بالتنصت أو التجسس أو التدخل المباشر. بعض هذه التجاوزات تجاوز الحد المعقول أو التبرير الذائع عن ضرورات الحرب ضد الإرهاب التي لم تعد محلية أو إقليمية بل «عالمية»، لتصبح «ممارسات فاشية في نظام ديموقراطي». ولعل هذا النوع من التجاوزات يمكن أن يكون الأخطر والأشد فتكاً بالليبرالية، لا لشيء إلا لأنه يأتي في حماية القوانين ومباركة السلطات التشريعية وأحياناً برضاء قطاع كبير في الرأي العام. هو أيضاً يمكن أن يكون الأخطر والأشد فتكاً بالليبرالية، لأنه يحد من حرية وإرادة الدول الديموقراطية نحو مد يد العون إلى المنظمات غير الحكومية ومنظمات المجتمع المدني والحركات المناهضة للفاشية والسلطوية في مختلف دول أفريقيا والعالم العربي والإسلامي، وفي روسيا والصين والهند، أي حيث تواجه الحصار.
بمعنى آخر، لم تعد توجد قوة حقيقية وصادقة في العالم متحمسة للدفاع عن الليبرالية ووقف انحسارها، بل أخشى أن الواقع يشهد بأن هناك أنظمة حكم عدة صارت تشارك في شن حرب عالمية ضد المجتمع المدني العالمي وتفرعاته المحلية، مستفيدة من فورة مشاعر قومية وتيارات سلطوية مدعمة بأدوات تكنولوجية متطورة. اعتقد اعتقاداً جازماً بأن انتصارات دونالد ترامب وصعود الشعبوية في أميركا أحد أهم المؤشرات على انحسار الليبرالية في أميركا، وأن انتصارات هيلاري كلينتون دليل إضافي على استمرار صعود «الليبرالية الجديدة» هناك، ومؤشر آخر له مغزاه على انحسار الليبرالية في هذا البلد. أعتقد أيضاً بأن تكون الانتصارات الجزئية التي تحققها الأحزاب المتطرفة قومياً وعِرقياً ودينياً في أوروبا والقوى المعادية للمهاجرين مؤشرات لها دلالاتها على انحسار الليبرالية في أوروبا.
تنحسر الليبرالية وتتعدد ملامح وسلوكيات فاشية جديدة. وفي الوقت نفسه تنشط قوى ثورية في مواقع، ومتمردة في مواقع، وفوضوية في مواقع، تعلن رفضها هذا الانحسار وتكسر أطواق الحصار.
الأمثلة كثيرة، وبخاصة في عالمنا العربي، ولكنها أيضاً بارزة في أماكن أخرى، ودليلنا هو أصداء ظاهرة المرشح الديموقراطي للرئاسة برني ساندرز، وأصداء إنجازات رئيس وزراء كندا جاستن ترودو.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة