في هذه المرحلة الدقيقة من التاريخ السياسي للأمة العربية، فإن دول الخليج العربي تعمل على بلورة وضعها
في هذه المرحلة الدقيقة من التاريخ السياسي للأمة العربية، فإن دول الخليج العربي تعمل على بلورة وضعها عبر التحالفات العسكرية والتدخل لإطفاء أكثر من منطقة عربية مشتعلة. والأمر يتطلب إعادة بناء القوة العسكرية الخليجية التي كانت لفترة طويلة قوة ردع أكثر منها قوة تدخل مباشرة، نظراً للتوجهات الخليجية في حينها التي تتمثل في النأي بالذات عن أي نزاع عسكري، إلا ما ندر مثل التدخل في تحرير دولة الكويت بعد الغزو العراقي لها في مطلع تسعينات القرن الماضي.
واختلاف المرحلة تاريخياً، وتغير ظروف المنطقة العربية والإقليمية، سياسياً وعسكرياً، يجعل من الطبيعي أن تولي دول الخليج الجانب العسكري اهتماماً خاصاً يضمن حماية أمنها وحماية سيادتها. غير أن دول الخليج العربي في السنوات القليلة التي سبقت التأزمات العسكرية في المنطقة كانت خطت خطوات فارقة في التوجه نحو مجال الثقافة والاستثمار فيه والترويج له. وقد منح هذا التوجه دول الخليج تأثيراً كبيراً في الحراك الثقافي واستقطاب المثقفين العرب إلى أراضيها. وليس خافياً أن الثقافة والمثقفين من كتاب ومبدعين وفنانين يمثلون قوة تأثير ناعمة ذات قدرة على توجيه الرأي العام ورسم وعي خاص بمختلف القضايا الراهنة.
وقد خطت دول الخليج في مجال الاستثمار في الثقافة خطوات سريعة لكنها واسعة القفزات. بدأتها بالمهرجانات الفنية ذات المدلول الثقافي التي صارت تقليداً راسخاً في خريطة الفن في الخليج، كالاحتفال بالمناسبات الوطنية مثل مهرجان «هلا فبراير» في الكويت الذي يتزامن مع ذكرى تحرير الكويت من الاحتلال العراقي، وأعياد دولة الإمارات العربية المتحدة أو المهرجانات المزدوجة ذات الطابع الثقافي والفني في آن، مثل «مهرجان القرين» في الكويت، و«مهرجان صلالة» بسلطنة عمان، و«مهرجان الجنادرية» في المملكة العربية السعودية.
وقد رافق ذلك تطور في نشاط بعض القنوات الفضائية الخليجية وتحسن أدائها مقارنة بالفضائيات العربية وتحقيق بعض البرامج الثقافية الخليجية موقعاً جيداً في خريطة البرامج العربية. فضلاً عن الإنتاج المبهر الذي تولته بعض الفضائيات الخليجية وبعض شركات الإنتاج الخليجية لإنتاج مسلسلات درامية عربية ذات صبغة تاريخية أو فانتازية تعد من روائع الفن العربي في الثلاثين عاماً المنصرمة.
وربما كانت النقلة النوعية في الإنجاز الثقافي الخليجي في ارتقاء مستوى معارض الكتاب الخليجية وتنظيم ندوات ثقافية هامة مصاحبة لها. وتنظيم جوائز ثقافية للإبداع العربي صارت تعد اليوم من أهم الجوائز العربية في مجالها، مثل جائزة الشيخ زايد للكتاب، وجائزة البوكر للرواية العربية، وجائزة كتارا للرواية العربية. إضافة إلى الجوائز العديدة في مجال العمل الإعلامي.
والنشاط الثقافي الكثيف السابق جعل دول الخليج مقصد المثقفين والمبدعين العرب وقبلتهم التي تتيح لهم فضاء من التنافس والانتشار وتحقيق الذات. ومن خلاله تجلى الوجه الحضاري لدول الخليج العربي المتمثل في التقدم العمراني والتوسع في التنمية البشرية والإنسانية. والقدرة على التوسع الاقتصادي في الاستثمار في مجالات شتى غير مجال صناعة استخراج النفط وبيعه.
وأهم إنجاز ثقافي حققته دول الخليج هو فوز دولة الإمارات العربية المتحدة بمنصب الأمين العام لاتحاد الكتاب العرب، وهي أول دولة خليجية تفوز بهذا المنصب منذ تأسيس الاتحاد. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الثقة التي حصلت عليها دول الخليج عامة، ودولة الإمارات العربية المتحدة خاصة في قطاع الثقافة. فالمواقع الثقافية المرموقة التي أحرزتها دول الخليج العربي سوف تبرز قدرتها على التنظيم والإدارة وتبادل الخبرات.
إن استمرار دول الخليج العربية في تعزيز موقعها الثقافي في الوطن العربي توازياً مع اهتمامها بتثبيت موقعها العسكري، سيحقق توازناً بين قدرتها على التأثير من خلال القوة العسكرية والقوى الناعمة المتعددة التي تمثل الثقافة جزءاً مهماً منها. وسيجعل من الثقافة وسيطاً دبلوماسياً خفياً قادراً على التقريب بين المثقفين العرب، وجامعاً لهم في محافل تمكنهم من مناقشة قضاياهم المختلفة وأزماتهم المتعددة. فالثقافة كانت دائماً رأس حربة التغيير، وكان المثقفون يمثلون صوت الجماهير، وأداتهم للتعبير والتغيير.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة