في هذا المتحد المعزول لا يعود الإيمان مسألة شخصية. بل مسألة مجتمعية. بواسطته يدافع الإنسان عن نفسه وعن الجماعة التي ينتمي إليها
نشرت الصحف الفرنسية والبريطانية، خلال الأسبوعين الماضيين، دراسات ومقالات في مسألة عدم اندماج المسلمين الأوروبيين في مجتمعاتهم، وعدم شعورهم بالانتماء إلى الدول التي ولدوا وترعرعوا فيها.
تفاوتت قيمة تلك الدراسات كثيراً، بعضها رأى في الدين الإسلامي مصدر التطرف، ودعا إلى طرد الجاليات الإسلامية من القارة القديمة، وبعضها رأى في التحالف مع إسرائيل الحل الشافي لهذه المشكلة، نظراً إلى خبرتها في هذا المجال، والقليل منها تناول الأسباب الحقيقية لهذه المشكلة.
من هذه الأسباب -على سبيل المثال- أن الدين الإسلامي ينظم حياة الإنسان من ولادته إلى مماته، وينظم انخراطه في المجتمع وعلاقته بالدولة وبالمسؤولين والشرطة والقضاء، وببيته وأولاده وجيرانه وأصدقائه، فضلاً عن علاقته بالماوراء. وما حصل للمسلمين في أوروبا (هل نطلق عليهم اسم المسلمين الأوروبيين)، خصوصاً الجيل الأول، أنهم اصطدموا بثقافة مختلفة، حيث لا علاقة للدين بتنظيم الحياة، فهذه مهمة الدولة والقوانين الوضعية غير المقدسة القابلة للتعديل، ولا تتدخل في حياة الفرد، فلا تأمره ولا تنهيه عما يجب أن يفعل أو لا يفعل، كما أنها لا تتدخل في إيمانه أو إلحاده أو ميوله السياسية، شكّل هذا الواقع صدمة ثقافية وحضارية للمهاجرين من أقطار مسلمة، صدمة أورثها الأهل للأبناء الذين ولدوا في أوروبا، ويفترض أنهم باتوا يشكلون جزءاً من مجتمعاتها.
ومن الأسباب أيضاً أن المسلمين -خصوصاً في فرنسا- يعيشون فيما يشبه الغيتو، ويشكلون متحداً معزولاً عن بقية المتحدات، وهذا ليس خيارهم أو مسؤوليتهم وحدهم، فالفرنسيون ينظرون إليهم بعين الريبة، ولا تخلو نظرتهم من العداء التاريخي الذي طبع علاقاتهم بالمستعمرات السابقة، فضلاً عن النظرة العنصرية الفوقية إلى المكان وناسه الفقراء. ومعاملتهم كجماعة وليس كأفراد.
فالمنتمي إلى هذا المتحد مسؤول عن كل ما يحصل فيه، سواء كان ضالعاً فيما يحصل من «شغب» أو غير ضالع فيه، ما يزيد العزلة، ويحول دون المثاقفة، ومعرفة الآخر، كما يحول دون نشر الثقافة الفردية التي يتطلع إليها الشاب المسلم، بعيداً من متحده (معزله) ويصارع ثقافته الجمعية الموروثة ويرغب في استبدالها، لكنه يصطدم برفض المجتمع الأوسع وبالمؤسسات التي تنظر إليه باعتباره «غريباً»، حتى لو كان مولوداً لأبوين مولودين في فرنسا.
في هذا المتحد المعزول لا يعود الإيمان مسألة شخصية، بل مسألة مجتمعية، بواسطته يدافع الإنسان عن نفسه وعن الجماعة التي ينتمي إليها، هو سلاحه الوحيد في مواجهة الآخرين، أي أصبحت له وظيفة لا علاقة لها بالتعبد.
حاولت السلطات الفرنسية دمج مسلميها في المجتمع، من خلال بعض أئمة المساجد والأكاديميين والسياسيين وتمتين العلاقات مع دول المنشأ، لكنها فشلت، إذ اتُهم هؤلاء الأئمة بالعمالة، وأصبحوا معزولين في متحدهم، ما أتاح الفرصة لأئمة آخرين استخدموا المنابر للتحريض، تماماً مثلما كانت الحال مع أبو حمزة المصري وعمر بكري في بريطانيا، الأول رحّل إلى أمريكا بتهمة الإرهاب، والثاني يقضي عقوبة بالسجن في لبنان بعدما دين بالتهمة ذاتها.
هذا هو الواقع الفعلي الذي لم تتطرق إليه الدراسات والمقالات الكثيرة، وتصريحات السياسيين، وفي مقدمهم هولاند الذي سار على خطى بوش الابن بعد 11 أيلول (سبتمبر).
وهناك عامل آخر لم تتطرق إليه هذه الدراسات، وهو أن المسلمين في أوروبا ما زالوا مرتبطين ببلدانهم الأساسية، ويتأثرون بتعاطي الدول التي يقيمون فيها مع الإرهاب والحروب التي تدور فيها، ولا يخفى أن أوروبا (وأمريكا) تستغل هذه الحروب لمصالحها، غير آبهة بالكوارث والدمار الذي تخلفه سياساتها، مستخدمة شعارات حقوق الإنسان والديمقراطية لإطاحة أنظمة وتنصيب أخرى.
العزلة الحضارية تحاصر مسلمي أوروبا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة