وأنا أكتب عن النهضة والانحطاط تذكرت كلاما قرأته منذ سنوات فى مصدر لم أعد أذكر الآن عنوانه ولا اسم مؤلفه.
وأنا أكتب عن النهضة والانحطاط تذكرت كلاما قرأته منذ سنوات فى مصدر لم أعد أذكر الآن عنوانه ولا اسم مؤلفه. وربما كان كتابا فى التاريخ أو فى تاريخ الحضارة بالذات. لكن هذا لا يهمنى الآن بقدر ما تهمنى الفكرة التى وقفت عندها فى هذا الكتاب، وهى التى تدور حول النهضة ومعناها وعلاماتها.
ونحن فى حديثنا عن النهضة نرجع أول ما نرجع للنهضة الأوروبية التى بدأت بها الحضارة الحديثة، لا فى أوروبا وحدها، بل فى العالم كله. لأن حضارة أوروبا فى العصور الحديثة كانت مدخل العالم الى هذه العصور. فقد ورثت هذه الحضارة أهم ما تحقق فى العصور القديمة والعصور الوسطى على أيدى المصريين واليونانيين والرومان والهنود والعرب وغيرهم من الأمم، وإذن فالحضارة الحديثة ليست أوروبية خالصة، وإنما شاركت فيها البشرية كلها بتراثها العابر للعصور.
هذا التراث الأنسانى الحافل المتنوع تفاعل على مهل وتكامل فى النهضة الأوروبية وفيما تلاها ومكن الأوروبيين من إعادة اكتشاف العالم والحياة والسيطرة على الطبيعة واستخراج الطاقة وتوليدها واستخدام الآلة ومضاعفة الانتاج وجعلهم يعيدون النظر فى كل ما ورثوه من أفكار ومسلمات ويصححون ما يحتاج منها للتصحيح فى ضوء العقل الذى تخلصت به الانسانية من أوهام كثيرة كانت تضللها وتحرمها من حقوقها الطبيعية وتفرق بينها وتطبع حياتها بطوابع محلية ضيقة تراجعت كثيرا واضمحلت أمام حاجة البشر لحضارة مشتركة.
بهذا المعنى وفى هذا الضوء نفهم علاقتنا بأوروبا وبالعالم، ونعرف الإطار الذى تأثرنا فيه بغيرنا كما تأثر غيرنا بنا، نفهم هذه العلاقة باعتبارها حوارا دائما يدور بصور وأدوات مختلفة فى السلم والحرب، وبقصد أحيانا وبدون قصد أحيانا أخري.
ونحن لا ننكر أننا تأثرنا بالأوروبيين وبنهضتهم الحديثة ونرى ذلك أمرا طبيعيا. طبيعى أن نأخذ عن الأوروبيين ما وصلوا إليه فى العلم، وأن نترجم ديكارت وفولتير وروسو إلى لغتنا، وأن نؤمن بالديمقراطية كما يؤمن بها الأوربيون. وطبيعى فى المقابل أن يصبح المسلمون فى أوروبا أوروبيين وأن يكونوا نوابا فى برلمانات انجلترا وفرنسا والمانيا وهولندا وبلجيكا والسويد، ووزراء فى حكومات هذه البلاد. وقد رأينا فى الأيام القليلة الماضية أن صادق خان الانجليزى المسلم الباكستانى الأصل وعضو حزب العمال البريطانى أصبح بأصوات الانجليز عمدة للندن.
وكنا قد رأينا ما فعله دعاة العودة لعصور الظلام عندنا حين اختير رجل مسيحى ومصرى أصيل ليكون محافظا لاحدى محافظات الصعيد. ورأينا ما حدث حين تولت مدرسة مسيحية إدارة إحدى مدارس البنات! هؤلاء وأمثالهم عندنا يخافون من النهضة ويشعرون فيها بالاغتراب ويسمونها تغريبا ويتهمون روادها بتقليد الأوروبيين ومحاكاتهم. هكذا يفعلون معنا الآن كما فعلوا من قبل مع قاسم أمين، وأحمد لطفى السيد، وطه حسين، ومنصور فهمي، وعلى عبدالرازق. كان الله خص الأوربيين وحدهم بالعقل والحرية، وجعل بلادنا دون غيرها مراتع للخرافة والجهالة، وعروشا للطغاة المستبدين!
لا. فنحن والأوربيون والبشر جميعا من طينة واحدة. وقد ولدتنا أمهاتنا أحرارا كما ولدتهم أمهاتهم أحرارا، فمن الطبيعى أن نتعلم منهم كما تعلموا منا وأن نتأثر بنهضتهم الحديثة وأن ننقل عنهم ما وصلوا إليه وهذا ما لاننكره. لكننا لم ننقل عن الأوروبيين إلا ما يمكن نقله، وهو القوانين والمباديء التى تصح عندنا كما تصح عندهم،
فى الفلك. الأرض كروية فى منظار محمود الفلكى كما أنها كروية فى منظار كوبرنيكوس وجاليليو. وقلوب المرضى الانجليز التى عادت تنبض بين يدى مجدى يعقوب فى لندن لاتختلف عن قلوب المصريين التى عادت لها الحياة بين يديه فى أسوان. والحرية فى خطب ميرابو هخى ذاتها فى خطب سعد زغلول. ودستور 1923 الذى دافع عنه ملايين المصريين مستوحى من الدساتير الأوروبية، وهكذا تتفق المباديء والقوانين، لكن الممارسات تختلف.
نحن نعرف أن الخديو اسماعيل هو الذى بادر بإنشاء أول مجلس نيابى فى مصر، لكن هذه المجلس لم يكن إلا شكلا نفخت فيه النهضة المصرية من روحها وسارت به خطوة بعد خطوة حتى أصبحت الديموقراطية المصرية حقيقة واقعة. والذى حدث فى مجلس النواب حدث فى الصحافة التى شجعها الخديو حتى إذا أصبحت قادرة على نقد السلطة والدفاع عن الشعب صادرها. والذى حدث فى الصحافة حدث فى المسرح. الحكام يريدون الديموقراطية شكلا لا روح فيه. والنهضة تنفخ فى هذه الأشكال من روحها. تمصرها من ناحية، وتفعلها من ناحية أخري. لأن هذه النظم وهذه المباديء، لا تستطيع أن تكون فاعلة مؤثرة إلا اذا توطنت وتمصرت وتمثلت الظروف وعرفت كيف تتعامل معها. ومن هنا كان للنهضة المصرية فى اللغة موقف يختلف عن موقف الأوروبيين.
الأوروبيون فى نهضتهم هجروا اللاتينية الفصحى وتبنوا عامياتها الايطالية والفرنسية والاسبانية وغيرها وحولوها إلى لغات قومية. أما نحن فكانت مطالبنا فى اللغة مختلفة، ولهذا أحيينا العربية الفصحى فى نهضتنا وخلقناها خلقا جديدا فى أشكال أدبية لم يعرفها العرب من قبل منها المسرح والرواية والقصة والمقال، وحصلنا بهذه الفصحى الجديدة على أرفع جائزة أدبية فى العالم.
ومع أن العامية وجدت عندنا من يتبناها ويدعو لها ويقدم فيها ابداعات حقيقية، فالفصحى هى التى فرضت نفسها فى النهضة أو فرضتها النهضة بالأحري، لأن النهضة ليست أشكالا تقلد ولكنها روح تعبر عن حاجات عميقة تفرض نفسها على الجميع. هذه الروح هى التى ألهمت توفيق الحكيم روايته «عودة الروح» التى عبرت عن النهضة شكلا ومضمونا. فقد صورت نضال المصريين فى سبيل الحرية، وكانت من حيث هى شكل أدبى خلقا جديدا لم يعرفه الأدب العربى من قبل.وهذه الروح هى التى ألهمت محمود مختار تمثاله «نهضة مصر« الذى عبر هو الآخر عن النهضة شكلا ومضمونا.
فالمرأة الواقفة فى التمثال إلى جانب أبى الهول هى الفلاحة المصرية أو هى بالأحرى الفلاحون المصريون الذين هبوا من رقدتهم الألفية، وثاروا طلبا للحرية والتقدم. وقد عبر مختار عن هذا المعنى بقوة حين أوقف هذه المرأة وهى مصر إلى جانب تاريخها المتمثل فى أبى الهول تضع يدها اليمنى على رأسه كأنها توقظه أو تستنهضه فيشب بالفعل وينهض، على حين تزيح بيدها اليسرى حجابها الذى أزاحته المرأة المصرية بالفعل فى تلك السنوات التى تلت ثورة 1919 فكأنها أزاحت عن مصر كلها ظلمة كثيفة غرقت فيها أكثر من الفى عام نسيت فيها نفسها ونسيت حضارتها القديمة التى كشفت النهضة المصرية عنها الغطاء.
فضلا عن أن هذه المعانى كلها تتحقق وتتجسد فى فن قدم فيه المصريون إسهامات لاتجاري، ثم وجدوا أنفسهم ممنوعين من الاقتراب منه حتى جاءت النهضة وجاء مختار فلم يكتف بأن ينحت تماثيل لسعد زغلول ومصطفى كامل ومحمد فريد، بل نحت أيضا تماثيل لعلى بن أبى طالب، وخالد بن الوليد، وطارق بن زياد. هذا الدور الذى أداه مختار وأبناء جيله من النحاتين والمصورين أمثال محمود سعيد وراغب عياد وأحمد صبرى فى النهضة المصرية يصحح موقف المسلمين من الفنون الجميلة خاصة بعد الرعاية التى لقيتها هذه الفنون من زعماء الشعب وأمراء البيت المالك، ويذكرنا بالدور الذى أداه ليونارد دافنشى ومايكل انجلو ورافاييل فى النهضة الأوروبية وصححوا به موقف الكنيسة من الفن.
*- نقلاً عن جريدة الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة