"أحياناً نسمع الكلام عن دعوى تعويض عن الأضرار رُفعت ضد طبيب غير كفء شوه أحد أعضاء مريضه بدلاً من شفائه
"أحياناً نسمع الكلام عن دعوى تعويض عن الأضرار رُفعت ضد طبيب غير كفء شوه أحد أعضاء مريضه بدلاً من شفائه. ولكن ماذا يقال عن مئات آلاف العقول التي شوهتها إلى الأبد حماقات حقيرة ادعت تكوينها".
تضعنا هذه العبارة التي كتبها تشارلز ديكينز قبل أكثر من 150 سنة، أمام مفارقة بشرية معضلة. فرغم أن أغلب الناس تقر بقابلية طروء التشوهات على العقول كما هو الأمر في الأجساد، إلا أنهم قل ما يتفقون حول ما يعتبرونه تشويهاً فكرياً، بخلاف أمرهم عندما يتكلمون عن تشوهات الأجساد والأضرار اللاحقة بها. هذا بالطبع ما يسهل رفع الدعاوى على الأطباء غير الأكفاء، في حين يصعب تعرض مشوهي العقول لمثل ذلك. ولكن الإشكال الأخطر في قضية العقول المشوهة هو صعوبة تحريرها من التلف اللاحق بها ولعل هذا ما حدا بديكنز نحو استعمال تعبير (إلى الأبد) في إشارته إلى ذلك.
تهتم الكثير من الأمم المتحضرة في (تنمية الوعي وبناء الإنسان) وهي تسعى من خلال ذلك الاهتمام إلى وقاية العقل من تلك التشوهات التي تلمح لها عبارة ديكينز، وكذلك من تداعياتها على المجتمعات. ذلك أن عضو الجسد المشوه تنخفض كفاءته الحركية وقد تتعطل حركته بالكامل في بعض الأحيان في حين أن العقل المشوه لا يتوقف عن الحركة ولا تنخفض فاعليته. إنه يستمر في الحركة ولكن باتجاه سلبي هدام وهنا تكمن الخطورة.
لا شيء يشوه العقول مثل إجبارها على السير عكس طبيعتها. ولا شيء يضاد طبيعتها مثل قسرها على تبني الأجوبة الناجزة. ولا شيء ينجيها من شراك الأجوبة الناجزة مثل إطلاق تيارات الأسئلة الناقدة. هكذا كان العقل وهكذا قدر له أن يكون، مغامراً ومتطلعاً إلى كشف حجب الحقيقة.
لأن كل سائس للعقول سيتورط حتماً في إخفاء الحقائق، ولأن الانكفاء عن الحقائق ضد طبيعة العقل وجوهره، فسوف يُحِل العقل عندها بدائل موهومة للحقيقة تكسبه الانغلاق والتعصب، وذلك أشنع ما يمكن تصور إصابة العقل به من تشوهات.
هناك طريقتان للتعاطي مع أي مفهوم، طريقة لا تتجاوز الظواهر والطقوس، وطريقة أخرى تحاول النفاذ إلى مضمون المفهوم ومحتواه الحقيقي. هذا ما لاح لي عند سماعي بخبر تأسيس هيئة للثقافة في بلادنا، إذ إني أتساءل أي معنى للثقافة سيكون حاضراً في عمل هذه الهيئة؟
هل هو ذلك المعنى الطقوسي الفلكلوري الذي يكتفي بعرض بعض الموروثات الشعبية للبلاد بشكل سطحي، والذي إن تجاوز ذلك فلن يتعدى الحديث عن بعض الإنتاج النخبوي للصالونات الأدبية. أم أننا بصدد مشروع ينطلق من عناية أكثر عمقاً بذلك المفهوم، وارتباطه بصيانة المجتمعات من خلال (تنمية الوعي وبناء الإنسان).
هل سنرى من هذه الهيئة توجهاً نحو الترويج للقراءة الحرة كسلوك اجتماعي مطلوب؟ وهل سنرى منها خططاً تستهدف تعزيز الشغف بالمعرفة لدى الأطفال والناشئة وتأسيس العقل الناقد لديهم؟ هل ستعمل هذه الهيئة على وضع برامج تعيد رسم الأولويات بحيث يعود إلى مركز الاهتمامات ما يفترض به أن يكون في المركز، ويتراجع إلى الهوامش ما يفترض به ألا يتجاوز الهوامش؟ هل سيعلن لواء الثقافة الجادة حربه على خطاب التفاهة والاستهلاك الذي نرى تفشيه اليوم؟ وهل سيتحقق بدعم هذه الهيئة فضاء أرحب تتلاقح فيه الأفكار دون وصاية اللون الواحد ولوثة الأجوبة المغلقة؟ أخيراً هل ستشرع هذه الهيئة في العمل على حماية العقول من الانكفاء عكس طبائعها الشغوفة بالحقائق؟
لقد مضت الكثير من السنوات التي كانت تتعاطى فيها مؤسساتنا مع المعنى القشوري للثقافة والتثقيف، ولكن بما أن الوطن على مشارف رؤية طموحة يحاول النفاذ بها إلى المستقبل فلعل من المثالي إعادة طرح هذه الأسئلة التي تذكرنا جميعاً بأن الاستمرار باجترار ذلك المعنى وما يتعلق به لا يستقيم مع الجدية المتوقعة في ظل هذه الرؤية.
تزدهر الأوطان بازدهار العقول الفاعلة في مجتمعاتها، وتزدهر العقول في ظل المعنى الحقيقي للثقافة، ويزدهر ذلك المعنى في ظل السؤال الجريء والصدر المتسع للتنوع في فضاء حر من المعرفة، ولعل هذا عين ما عناه جون ميلتون عندما قال: "عارٌ على الحقيقة أن يُخشى عليها من الحرية".
*- نقلاً عن صحيفة "الوطن أون لاين"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة