تنتهج الرواية بناءً خطياً، يبدأ بطفولة محمد على، وحتى تمكنه من حكم مصر، وبين هاتين المرحلتين تتوالى المحطات الحياتية له
وفى رواية «جنة خانة» لزكريا عبيد، يُتوج المكان بطلاً إلى جانب الشخصية، فنجد حرصاً شديداً على وصف الأماكن التى يحل بها بطل الرواية منذ أول لحظة إلى النهاية، إذ تقول أول عبارة فيها «كانت الشمس تميل إلى المغيب مرسلة آخر أشعتها التى تلوّنت بالاحمرار على طول الساحل الهادئ. وبدت السفن ومراكب الصيد الصغيرة الراسية فى الميناء، كلوحة «سلويت» رائعة، غابت عنها التفاصيل، وبدأت تسكن شيئاً فشيئاً الحركة الناشطة، بينما كان المشاعلية يستعدون لإضاءة أرصفة الميناء»، بينما تقول آخر عبارة: «وقف محمد على أخيراً عند سور القلعة المطل على ميدان الرميلة.. وفى صدارة المشهد الذى كان يبدو كلوحة رسمها فنان مبدع ارتفعت مآذن كثيرة عالية، كان يستطيع أن يُميز الكثير منها: السلطان حسن، وطولون، والأزهر، وحتى مئذنة المشهد الحسينى المميزة الرفيعة، ومآذن لم يعد يستطيع أن يحصى عددها وقد تناثرت البيوت حتى نهر النيل، وتعبر عيناه إلى الأبعد، فتصلان إلى أهرامات الجيزة».
وبين مشهدى البداية والنهاية، تذهب الرواية عميقاً فى تعظيم حضور المكان، من خلال «جنة خانة»، وهو بيت أبى محمد على، الذى قضى فيه طفولته، ثم تتوالى الأمكنة الموزّعة على فصول الرواية، فبينما اتخذ الفصلان الأول والثانى عنوانى «الفارس» و«أمينة هانم»، جاءت الفصول التالية بأسماء أمكنة على النحو التالى: «فى نصرتلى» و«فى الأرض الموعودة» و«الطريق إلى القاهرة» و«تحت أسوار القلعة» و«على عرش مصر»، فيما فتح الفصل السابع فيها باباً وسيعاً أمام شخصيات تاريخية أخرى احتفت بها الرواية، حين أخذت عنواناً هو «شعب يبحث عن حاكمه»، مثل «خسرو باشا» و«يوسف كتخدا»، والمحروقى، وطاهر باشا، ومشايخ الأزهر: عمر مكرم والسادات والفيومى والمهدى والشرقاوى، ومراد بك وإبراهيم بك وعثمان بك البرديسى، والمؤرخ الشهير عبدالرحمن الجبرتى صاحب كتاب «عجائب الآثار فى التراجم والأخبار»، الذى يُعد المرجع العمدة لفترة حكم محمد على وما سبقها.
تنتهج الرواية بناءً خطياً، يبدأ بطفولة محمد على، وحتى تمكنه من حكم مصر، وبين هاتين المرحلتين تتوالى المحطات الحياتية له، والسياسية للدولة العثمانية ومصر، وفق ما ورد فى الحوليات التاريخية، الأمر الذى سهّل على الكاتب هندسة معمار روايته تلك، إذ جعل لها منذ اللحظة الأولى هدفاً أو نقطة جذب مركزية، وضعها عنواناً ثانياً على الغلاف ألا وهى «قصة تولى محمد على باشا عرش مصر»، وبالتالى فإن كل الأحداث والوقائع والحوارات والصور الظاهرة، وكل مضمر فى هذا النص، وكذلك ما كان يتشكل فى ذهن الكاتب وهو يبحث أو يكتب الرواية، صار خادماً لهذا الهدف. وأدى هذا إلى حضور التاريخ بقوة، وتحكم محطاته المعروفة فى سير الحدث الروائى، ليتلاقيا فى محطات كثيرة فارقة، منها لحظة مجىء محمد على إلى مصر، واحتلال نابليون بونابرت لها ثم رحيله عنها، وقيام ثورة ضد خورشيد باشا، وتطلع الشعب إلى محمد على ليكون والياً على البلاد.
وقد حاول الكاتب أن يفلت من قبضة التاريخ المحفورة بقوة فى الذاكرة وبطون الكتب، لأنه كان يدرك طوال الوقت أنه يكتب عملاً فنياً، فتعمق فى بعض الأحيان فى وصف الحالة النفسية لبطله، وللشخصيات التى أثرت فيه أو صاحبته فى حياته، وزاد على هذا بسبك لغة بليغة، وصور فنية لافتة، وجعل الطبيعة تتشاكل وتتفاعل دوماً مع الوقائع التى يصنعها البشر، وكذلك الأحوال الاجتماعية لعموم الناس، لكن لم ينسَ، كغيره من المثقفين، فكرة استدعاء محمد على رمزياً للحظة الراهنة، فى سياق ما جال بخواطر المصريين بعد ثورة يناير فى البحث عن مخلص أو بَنّاء كبير أو سياسى محنّك يحول الثورة إلى رافعة للدولة، ومن ثم ظل الماضى موجوداً فى الحاضر، وأصبح الكثير من الأعناق مشدودة إلى الوراء، لا سيما مع غموض المستقبل أو فقدان اليقين فى أن ما سيأتى سيكون أفضل مما مضى.
- نقلاً عن جريدة "الوطن" المصرية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة