رغم تكرار تناول العلاقة بين الدين والدولة فى الأعمال الفكرية والثقافية والكتابات الأكاديمية فإنه سيظل موضوعًا متجددا للمناقشة والبحث
رغم تكرار تناول العلاقة بين الدين والدولة فى الأعمال الفكرية والثقافية والكتابات الأكاديمية فإنه سيظل موضوعًا متجددا للمناقشة والبحث؛ لأنها قضية ذات أبعاد عدة : متقاطعة أحيانًا، ومتوازية أحيانًا أخرى. والدين كما هو معروف عند أهل السنة والجماعة: وضع إلهى سائق لأولى العقول السليمة بسبب اختيارهم المحمود إلى ما هو خير لهم بالذات، ومن ثَمَّ فهو مشروع لإسعاد الناس دنيا وأخرى، قال تعالى فى توضيح وظيفة الأنبياء والرسل: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [الحديد: 25]. وتتحقق سعادة الناس فى الحياة الدنيا من خلال اتباع طرق الرشاد والصلاح والعدل والعمران، وبيان ذلك يكون فى الدين، حيث إننا نراه ينظم علاقات الإنسان بخالقه تعالى وبنفسه وبأسرته وبمجتمعه وبوطنه وبالآخر، وكذا نظم العلاقة بين الشعب وحكامه وبين الدول. وفى بيان هذه العلاقات إرساء للقواعد والأسس التى ينبغى على الناس مراعاتها فى تصرفاتهم على اختلاف مسئولياتهم لتحقيق العمران والحضارة.
والناظر فى تاريخ الناس يجد أن وجود الدولة فى حياتهم ضرورة من الضرورات الحياتية التى يقتضيها الاجتماع البشرى فى كل العصور والأمكنة، وهو مطلب دينى أيضًا، فقد مارسه النبى صلى الله عليه وسلم ومن بعده المسلمون إلى يوم الناس هذا، والقول بغير هذا يؤدى إلى الفوضى وعدم استقرار أمور البلاد والعباد، وهو ضد مقاصد الدين، وهي: حفظ النفس والعقل والدين والعرض والمال.
لكن نلاحظ فى هذا السياق أن الدين الإسلامى لم يفرض قالبًا خاصًّا للدولة، فهو لم يهتم كثيرًا بالأسماء، وإنما نظر إلى ضرورة مراعاة ضوابط ومحددات من شأنها أن تضمن للدولة إقامة العدل وتحقيق الأمن والاستقرار والعيش الكريم لشعبها الذى منحها ثقته. ونعنى بالدولة هنا، فضلا عن الإقليم الذى يعيش عليه أفراد الشعب، الإدارة العليا التى تقوم بممارسة الحكم على الشعب الذى اختارها، بهدف تنظيم أموره وصون أمنه الداخلى والخارجى وتيسير سبل بقائه وتماسكه ونموه وتحضره. ويقرر أهل السنة والجماعة أن هذه المهمة هى مهمة إدارية، وأنها مستمدة من إرادة الشعب وثقته؛ حيث إنه صاحب الحق فى الموافقة على وضع نظام الحكم واختيار المسئولين. وولاية الدولة تفتقر إلى عقد، وسمات هذا العقد تتجلى فى أنه يقوم على الرضا والاختيار لا يدخله إكراه ولا إجبار.
ثم إن هناك بعدًا يقوم به الدين فى الدولة حيث إنه يمثل القانون العام والمرجعية التشريعية لها؛ مع إقرار الإسلام بوجود الآخر وإتاحة حقه كاملًا فى اتخاذ مرجعيته أصلا تشريعيا له. ويقوم بهذه المهمة فى نظام الدولة الحديثة سلطة أخرى يمثلها جهتان، هما: السلطة التشريعية، والمحكمة الدستورية، فالأولى من واجبها سن القوانين التى تكون الشريعة الإسلامية ومبادئها العامة مستندة إليها ومرجعية أساسية لها، وليست مخالفة أو متعارضة مع نص قطعى منها. والثانية، وهى المحكمة الدستورية، يجب عليها مراقبة هذه التشريعات والقوانين، وإبطالها فى حالة انحرافها عن النصوص الدستورية أو مخالفتها لها، وهذا متحقق ومعمول به فى الدولة المصرية الحديثة وكذلك يجب على الدولة الاعتراف بالمظاهر الدينية من الأعياد والاحتفالات، وإتاحة دور العبادة للكافة، وتمكين أفراد الشعب من ممارسة الشعائر الدينية، المقررة بالدستور، وتقرير مبدأ المواطنة الذى يُعَدُّ فى الإسلام رابطة ضرورية قائمة على الالتزام والمسئولية، ويتساوى جميع من ينتسبون إلى الوطن فى حفظ ضرورياتهم ونيل احتياجاتهم ورفاهيتهم المعيشية على أساس من العدالة والحرية والعيش الكريم، بلا تفرقة على أساس الانتماء الدينى أو العرقى ونحوه، أما ما يتعلق بالأمور الدينية من قوانين تنظيمية فلكل طائفة يقرها الدستور عقائدها وشرائعها التى تتمسك بها دون منازعة. ومن ذلك يظهر أن من مقاصد الدين ضرورة قيام الدولة الكفء التى تعمل على تحقيق الخير للشعب، وأن الدولة يقوم عليها أناس طبيعيون لا يدعون الألوهية أو بعض صفاتها، أو يزعمون أنهم مختارون من الله تعالى بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وأن مهمة الدولة تتلخص فى تحقيق مطالب الشعب وأمنه واستقراره وتماسكه والدفاع عن أرضه ومكتسباته، وتحقيق العدالة الاجتماعية والرقى العلمي، وأن سلطة هذه الدولة مستمدة من الشعب وثقته، وهى عقد اختيار يوجب القيام ببنوده من الطرفين كلٌ حسب مسئوليته ووسائله المتاحة، مع مراعاة الدين ومكانته من جهة كونه يمثل الإطار الأخلاقى والقانون العام للدولة وفق الثوابت التى تحافظ على هوية الشعب وثقافته؛ والمتغيرات التى تساعد على مسايرة العصر ومستجداته.
*- نقلا عن جريدة "الأهرام".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة